ولا شك أن كثيرًا من الناس في حاجة إلى معرفة هذه القواعد والأصول، ومن أشد الناس احتياجًا لها الملوك والوزراء ومن شابههم، وهؤلاء كثيرًا ما يرثون الملك وراثة أو بحظ طارئ فلا يكون عندهم هذه الخبرة.
ولهذا السبب كثرت حاجة القدماء لوضع الكتب التي ترشد الملوك والوزراء لأمثال هذه الأمور، ومن أقدم هذه الكتب كتاب السياسة لأرسطو، وكتاب كليلة ودمنة لبيدبا الفيلسوف، ومن كتب العصور الوسطى كتاب الأمير لمكيافيلي.
ومن الكتب المهمة أيضًا في هذا الباب مقدمة ابن خلدون، وكتاب السياسة للوزير المغربي، وكتاب الشهب اللامعة للمالقي، وغيرها.
وكذلك كتب الأحكام السلطانية، والإمامة والسياسة، والتراتيب الإدارية، والسياسة الشرعية، وتخريج الدلالات السمعية
ومع أنك تجد كثيرًا من الناس يبينون أهمية التاريخ، عمومًا، وفي بعض المعاني السابقة خصوصًا، إلا أنك لا تكاد تجد أحدًا يبين أهمية التاريخ لطلبة العلم، خصوصًا من يقتصرون على فن معين كالفقه أو التفسير أو اللغة أو نحو ذلك.
والحقيقة أن الأمر يفوق مجرد المعرفة والثقافة العامة، ولا يقتصر على كونه من ملح العلم التي تروّح عن طالب العلم إذا ضاق صدرُه بالدرس، أو تعبت نفسُه من ثقل العبارات العلمية المركزة.
فالذي أراه أن علم التاريخ مهم جدا لطالب العلم، بل أهميته لا تقل عن أهمية أصول هذه العلوم التي يدرسها، والإخلال بمعرفة هذا العلم كثيرًا ما يوقعُ طالبَ العلم في إشكالات، تجعله يصدر أقوالا عجيبة لا يمكن أن تصدر عنه إن كان له أدنى اطلاع ومعرفة بهذا العلم.
وقد حكوا عن بعض السلف أن شيخه عاتبه على ترك درس الفقه وحضور درس المغازي، فقال له: لو لم تكف عن العتاب وإلا سألتك على رءوس الأشهاد: أيما كان قبلُ بدر أو أحد، فإنك لا تعلم!!
ولسائل أن يسأل: وما الفائدة لطالب الفقه من معرفة أيما قبل بدر أو أحد؟!
والجواب أن الفائدة عظيمة جدا، ومتنوعة، وهذه بعض أمثلتها:
أولا: إذا عرفت أن فلانا من الصحابة مات في أحد وفلانا مات في بدر استطعت أن تعرف المتقدم والمتأخر منهما، فيفيدك ذلك في معرفة المرويات والترجيح بينها.
ثانيا: إذا عرفت أن لأهل بدر من الفضائل ما ليس لأهل أحد استطعت أن تعرف مراتب الصحابة في الفضل.
ثالثا: إذا عرفت أن هذه الآية نزلت في بدر وأن هذه الآية نزلت في أحد استطعت أن تعرف الناسخ والمنسوخ والمتقدم والمتأخر في ترتيب نزول القرآن.
رابعا: إذا عرفت أن هذا الحديث قيل قبل بدر، وأن هذا الحديث قيل بعد أحد استطعت أن تعرف الراجح والمرجوح والناسخ والمنسوخ.
والمتأمل يستطيع أن يجد فوائد كثيرة غير ذلك.
ولسائل أن يسأل: هذه الفائدة التي تقولها هي لعلم السيرة خاصة، فما سبب تعميم الكلام في التاريخ جملة؟!
والجواب: أن الجهل بالتاريخ يجعل كثيرًا من الناس يصدقون من الحوادث ما لا يمكن أن يقع، ويكذبون من الحوادث ما هو ممكن الوقوع بل شائع الوقوع، ولا شك أن الإمكان وعدمه مما لا بد منه عند المنتسبين للفقه، ولا سيما القضاء.
وكذلك فالعلماء كثيرا ما يطلقون أمثال هذه العبارات:
? هذا ممتنع في العادة.
? ذاك كثير في العادة.
? هذا يرجع إلى العرف.
? ذاك لا يعرف في الشاهد.
? هذا من العلوم الضرورية عند الناس.
? هذا من بدائه العقول.
? هذا مما اتفق عليه العقلاء.
وهذه الكلمات وأمثالها يذكرها أهل العلم في الاحتجاج على مسائل عظيمة في أصول الدين وفروعه، فضلا عن الاحتجاج بها في مسائل خلافية، فإذا كان الباحث أو طالب العلم لا يعرف عادات الناس ولا تاريخهم ولا أخبارهم ولا حوادثهم، فكيف يحكم على أن هذا ممتنع؟ وكيف يقطع بأن هذا لا يعرف في الشاهد؟ وكيف يجزم بأن هذا من العلوم الضرورية؟ وكيف يحكي اتفاق العقلاء، وهو لم يعرف شيئا من أخبارهم أصلا؟!!
ولذلك تجد كثيرًا من الطوائف يتتابعون على القطع بإثبات ما يُعلم ضرورةً عند أهل العلم أنه مقطوع ببطلانه!!
بل تجد بعض العلماء يحكون إجماع العقلاء على ما أجمع العقلاءُ على خلافه، أو على الأقل قال أكثرهم بخلافه!!
والاقتصار في الاطلاع على أحوال طائفة معينة قد يجعل الباحث أو العالم يظن أن القول الخارج عن أقوال هذه الطائفة لا يقوله عاقل، بل لعله لا يخطر بباله أصلا أن القول بهذا القول متصور الوقوع!!
¥