ولذلك تجد عند كثير من الناس من الأقوال الباطلة ما الله به عليم؛ كالباطنية، والسمنية، والشيعة الرافضة، وغلاة الفلاسفة، وغلاة الجهمية، والحلولية، وبعض فرق النصارى، والمسفسطة ومنكري العلوم، وأهل تكافؤ الأدلة، وغير ذلك مما لا يكاد يصدقه العاقل إلا إذا اطلع عليه.
والاطلاع على تواريخ الأمم وأحوالها في الأزمنة المختلفة، ومعرفة أقوال الطوائف قديمًا وحديثًا هو العلاج الناجع في معرفة بطلان هذه الأقوال، وهذا مع أنه عجيب إلا أنه حق؛ لأنه قد يدخل في باب (وداوِنِي بالتي كانت هي الداء)، أو لعله من باب (عرفت الشر لا للشر)، ولكنه مع ذلك يجب أن يكون بحذر؛ حتى لا تقع فيما وقع فيه ابن أبي الحديد وأمثاله إذ قال:
وأسائل الأمم التي اختلفت ........... في الدين حتى عابدي الوثن
فإذا الذي استكثرت منه هو الـ ....... ـجاني علي عظائم المحن
فضللت في تيه بلا علم .......... وغرقت في بحر بلا سفن
إن كثرة المطالعة لأخبار حقبة من الحقب، تورث -مع العقل السليم- علمًا إجماليًّا بأحوال هذه الحقبة، فيستطيع العاقلُ المميز أن يتبين بعد ذلك -إن ورد عليه خبر لا يعرفه- هل هذا الخبر ممكن الوقوع أو غير ممكن؟
وهل هو يتعارض مع ما عُرف بالضرورة من أحوال هذا العصر أو لا؟
وهل هو بعيد الوقوع أو راجح الوقوع؟
وقد أشار إلى ذلك ابن دريد في المقصورة بقوله:
من قاس ما لم يره بما رأى ........... أراه ما يدنو إليه ما نأى
وهذا مفيد جدًّا لطالب العلم، بل هو يغنيه عن كثير من البحث والتنقيب الذي قد يرجع منه بخفي حنين قائلا: لم أقف عليه.
وإليك مثالين على هذا الباب، حتى تتبين عظم أهمية هذه المسألة:
المثال الأول:
إذا قرأت مقالا فيه أمثالُ هذه العبارات: (الحرب الباردة .. الدولتان العظميان .. العولمة .. الشرق الأوسط .. دول العالم الثالث .. إلخ) فإنك تقطع بأن هذا المقال وليد العصر الحديث، ولا ينتمي بأي حال من الأحوال إلى القرن الخامس الهجري مثلا، فضلا عن أن ينتمي إلى عصر الصحابة والتابعين، فضلا عن أن ينتمي إلى العصر الجاهلي!!
وهذا مثال واضح، ولكن إذا تعمقت في البحث وأكثرت من المطالعة، وأمعنت في التنقيب، فإنك تستطيعُ -مع إدمان الممارسة- أن تحصّل ملكةً تقدر بها أن ترجع بكل نص إلى عصره الذي قيل فيه، وأحيانًا تستطيع بهذه الملكة أن ترجع كل نص إلى العالم الذي قاله!
والفائدة هنا ليست في معرفة ذلك على وجه التحديد، بقدر ما تكون في نفي نسبة قول لقائل بعينه، كما عرفنا بطلان نسبة قول معين لأحد التابعين ذكر فيه الرافضة؛ لأن اصطلاح (الرافضة) لم يكن قد عُرف أصلا في هذا الوقت!!
وإخالُك لو لم تعرف هذه المسألة تقول: ما الفائدة المرجوة في معرفة (متى ظهر اصطلاح الرافضة)!!
المثال الثاني:
ذهب بعضُ المتأخرين إلى جواز الزيادة على أربع في النكاح، وبنى كلامه هذا على أن آية ? فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ? [النساء: 3] ليس فيها نهي عن الزيادة، وحديث (أمسك أربعًا وفارق سائرهن) ضعيف، وليس في الباب إجماع يثبت!
ولا أريد هنا مناقشة المسألة فقهيًّا، ولكن أشير فقط إشارة تاريخية لو استحضرها هذا القائل لغير قوله فيما أحسب؛ وبيان ذلك أن نقول:
يَفترض هذا القائلُ أن الزيادة على أربع جائزة شرعًا، ولا شك أن الزيادة على أربع لو كانت جائزة شرعًا لكان ذلك معروفًا عند بعض الصحابة على الأقل، وعند بعض التابعين على الأقل، وعند بعض أتباع التابعين على الأقل، وهكذا إلى عصرنا هذا؛ لأن هذه المسألة مما تتشوف بعضُ النفوس إليها؛ لأن العرف والعادة المطردة التي لا تتخلف أن كثيرًًا من الأمراء والملوك والوزراء والوجهاء والكبراء يحبون النكاح والاستمتاع بالنساء، وقد وجدنا كثيرًا منهم على مر التاريخ يرتكب أكبر الفواحش وأعظم الآثام وأقصى المظالم في سبيل شهواته وملذاته، فلو كان مثل هذا الأمر جائزًا لما تخلف بعضُهم على الأقل عن فعله، ولو فعله بعضهم لما تخلف الناس عن نقله؛ لأن الناس مولعون بنقل الغريب والعجيب.
فهذه المقدمة عند التأمل والتدبر والبحث مما يبين للناظر أنه من المحال أن تكون الزيادة على أربع جائزة شرعًا مع هذه الأمور المناقضة لها؛ لأن النقيضين لا يجتمعان.
ولا بد لطالب العلم كذلك من معرفة متوازنة بأحوال العصور المختلفة؛ فلا ينبغي أن يكون واسعَ المعرفة بأحوال قرن من القرون معدومَ المعرفة بقرن آخر؛ لأن هذا أيضًا قد يؤدي إلى إصدار أحكام خاطئة مبنية على قصور النظر وضيق الأفق، وأيضًا لأن التفاوت بين أحوال العصور المتوالية لا يمكن أن يصير شاسعًا بين ليلة وضحاها، فإذا خفي على طالب العلم أن عصر الصحابة مثلا أقربُ القرون إلى أحوال عصر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو بعيد عن ضبط هذا الباب، وكذلك ينبغي أن يعرف أن عهد التابعين أقرب العهود إلى قرن الصحابة وهكذا.
وهذه القاعدة تنفع طالبَ العلم في كثير من المسائل؛ منها أن يرُدّ على من يزعم أن التابعين أجمعوا في مسألة على خلاف ما أجمع عليه الصحابة مثلا؛ أو أن التابعين جميعًا أخطئوا في فهم مراد أحد الصحابة، أو أن علماء القرن الرابع جميعًا ابتدعوا بدعة لم يعرفها من قبلهم دون أن ينكرها عليهم أحد من عصرهم، فكل هذه الأمور ممتنعة في العادة وإن كان امتناعُ بعضها أشد من بعض، ولا يُعرف ذلك إلا بمعرفة أحوال هذه العصور، وكذلك يُعرف التفاوت بين درجات هذه الأمور بالعلم الواسع بأحوال كل عصر، وهذا ما تميز فيه النوابغُ من علمائنا الأوائل والأواخر، كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما قال: أعرف كل بدعة في الإسلام وأول من ابتدعها.
والله أعلى وأعلم، وبه الهداية ومنه التوفيق.
أخوكم ومحبكم/ أبو مالك العوضي
¥