تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

بالتأمل فيما سبق يتبين أنَّ أوَّلَ موضع نَزلته جُهَينة بمصر كان في أحد أحياء القاهرة الحالية، وأكبر الظن أنَّ استقرار هذا العدد من جُهينة في هذا الموضع شجَّع أعداداً أُخرى غير قليلة على القدوم من الحجاز للإقامة والاستقرار، ومن هذا المَعْقِل بدأت تنتشر في أرجاء مصر، وبخاصة بلاد الصعيد.

ويستفاد مما ذكره القَلْقَشَنْدِيُّ والمِقْرِيزِيُّ أن جُهينة عند قدومها لبلاد الصعيد سكَنَتْ أول الأمر في أسفله في المنطقة المعروفة آنذاك (بالأشمونين) مجاورة لقريش، مثلما كان وضعهما في بلاد الحجاز، ثم ثارت ـ على عهد الفاطميين (358 ـ

567هـ) ـ فتنة بين هؤلاء الجيران، وكان الفاطميون يتولَّوْن قريش اً بدافع عَصَبِيٍّ، فبادروا إلى إرسال جيوشهم نَجْدَةً لقريش على جهينة، وانتهى الأمر بطرد الأخيرة ـ جهينة ـ من (الأشمونين) واستقرار قريش مكانها، ومنذئذ تبدل اسم (الأشمونين) إلى (بلاد قريش). أما جهينة فقد لحقت بأبناء عمومتها قبائل بَلِيٍّ في الصعيد الأعلى، وتمَّ الاتفاق بينهما على أن تحتل جهينة من المشرق من عقبة (قاو الخراب) إلى عَيْذَاب (69)؛ ويشمل بلاد منفلوط، وأسيوط، ودشنا، على الساحل الصحراوي، ولِبَليّ من جسر سوهاج إلى قريب من: قمولة، ويشمل هذا بلاد إخميم وما تحتها، من الغرب (70).

ويُورد البكريُّ وابنُ حزم إشاراتٍ لبطون من جهينة سكنت مصر دون تحديد للمكان الذي سكنت فيه هذه البطون، ولا الزمان الذي وصلت فيه إلى مصر (71). كذلك ينصُّ عبد المجيد عابدين على أن هناك (قبائل من جهينة سكنت الشرقية والقليوبية وقنا، وفي مركز فاقوس بمديرية الشرقية قرية قديمة تسمى دوار جهينة، وكانت تسمى من قبلُ: لبينة «أو لبني». وفي تاريخ 1228م قيد زمامها باسمها الحالي نسبة إلى جماعة من عرب جهينة يُقيمون بها، ... وفي مديرية القليوبية في مركز شبين القناطر بلدة تسمى نزلة عرب جهينة، أصلها من توابع زفيتة مشتول، ثم فصلت عنها في العصر الحديث) (72).

ظلت جهينة تعيش في أوطانها بمصر في سلام ووئام مع جِيْرَانِها من جهة، ومع السلطان القائم في البلاد من جهة ثانية، ولا نعلم نِزَاعاً شاركتْ فيه، فيما خلا ما أشرنا إليه من شأنها مع الفاطميين. ويبدو أنها كانت تَحْظَى بمشاركة في السلطة حين كانت مصر في أيدي العرب أو المتعربين من الأيوبيين، على نحو ما رأينا من إسنَاد إمارة الجند إلى أحد أبنائها، على عهد معاوية بن أبي سفيان كما مَرَّ، إلى أن كان يومٌ تولَّى زمام السلطة فيه في مِصْر قومٌ غيرُ عربٍ ولا متعربين هم المماليك (648 ـ 784هـ) وحاولوا ـ فيما يبدو ـ إقصاء العناصر العربية عن وظائف الدولة، وأظهروا أن هذا العنصر غير مرغوب فيه، وابتدعوا من وسائل الاضطهاد ما حمل هذا العنصر العربيَّ على الهجرة من مصر. هاهنا بدأ التَّذَمُّرُ العربي، وما لبث أن عبَّر عن نفسه في ثورات عارمة، قادت جُهَيْنَة إحداها ضِدَّ المماليك، ولكنها انتهت بهزيمتها (73)، وإخراج معظم من بقي فيها إلى بلاد السودان.

يقول ابن إياس في وصف هذه الثورة (74): (ثم دخلت سنة أربع وخمسين وسبعمائة، فيها توفي الخليفة الإمام الحاكم بأمر اللّه ... وصلى عليه السلطان الملك الصالح ... وفي هذه السنة جاءت الأخبار من بلاد الصعيد بأن العربان أظهروا الفساد، وعصوا ونهبوا جميع الغلال، وقتلوا العمال، وكان كبير العربان شخصاً يسمى ابن الأحدب [هو محمد بن واصل العركي] شيخ قبيلة عَرَك (75)، فاجتمع عليه قبائل كثيرة من العربان حتى سَدُّوا الفضاء، فلما بلغ السلطان ذلك اضطربت الأحوال، وخرج إليهم السلطان بنفسه، وسائر الأمراء قاطبة، وكان جاليش العسكر الأمير طاز، والأمير شيخو العمري، والأمير صرغتمش الناصري، فلما تقدموا أمام العسكر وقع بينهم وبين العربان واقعة عظيمة لم يسمع بمثلها، وقيل مات من العربان نحو النصف، وانكسر شيخهم ابن الأحدب ... ثم إن الأمراء مشوا وراء العربان الذين هربوا مسيرة سبعة أيام حتى دخلوا أطراف بلاد الزنج، ثم رجع الأُمراء والسلطان إلى الديار المصرية) (76).

يقول الدكتور عبد المجيد عابدين: (وصفوة القول: أن جُهَيْنَةَ في الفترة التي بين 698 ـ 754هـ كان لها نصيب وافر في المقاومة، وأن هذه الحركة انتهت بكثير منهم إلى بلاد السودان) (77). وهكذا انتقلت جُهَيْنة ـ عن طريق مصر ـ إلى السودان، كما انتقلت إليه من موطنها الأصلي بالحجاز عبر البحر الأحمر. وطرق انتقال جهينة من أوطانها في الحجاز ومصر إلى السودان هي موضوع الحلقة الثانية من هذه الدراسة إن شاء اللّه.

واللّه من وراء القصد.

انتهى الموضوع.

ـ[المهيري]ــــــــ[19 - 10 - 10, 04:47 ص]ـ

جزاك الله خيرا على هذا الجهد الطيب

ـ[أبوعبد الاله العيسي]ــــــــ[19 - 10 - 10, 02:52 م]ـ

سطور جميلة من شخص رائع ومحب للخير

وفقك ربي وسأفرح كثيراً لنسخها والتمتع بالقرءاة فيها

فهي من فارس جهينة مصعب

بورك في جهدك

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير