مختلف، لا حاجة إلى الإطالة به. وأمّا مصحف أبيّ، فقد روى بعض ولد أنس أنّ مصحف أبيّ كان عنده، وأنّ أوّله: الحمد لله والبقرة والنساء ثمّ آل عمران ثمّ الأنعام ثمّ الأعراف ثمّ المائدة ثمّ كذلك على اختلاف شديد في ترتيب السور\" (24).
هذا الاختلاف يطرح بدوره سؤالاً آخر، هو كالتالي: هل كان ترتيب السور عن اجتهادٍ منهم أو توقيفٍ من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟ لقد أجاب الإمام الباقلانيّ (ت403هـ) على هذا السؤال بإسهاب وبيان، إذ خصّص له باباً في كتابه \"الانتصار للقرآن\" 1/ 278 - 292، هو \"باب القول في ترتيب سور القرآن وهل وقع ذلك منهم عن توقيف أو اجتهاد\". أكتفي هنا بنقل زبدة ردّه غرض عدم الإطالة، فقال مجيباً: \"إنّما كان منهم تأليف سور المصحف على وجه الاجتهاد والاحتياط وضمّ السور إلى مثلها وما يقاربها\" (25).
كذلك ردّ بهذا القول على قوم زعموا \"أنّ تأليف السور على ما هو عليه في مصحفنا إنّما كان توقيفاً من الرسول لهم على ذلك وأمر به، وأنّ ما رُوي من اختلاف مصحف أبيّ وعليّ وعبد الله ومخالفة سائرهم لمصحف الجماعة إنّما كان قبل العصر الأخير، وأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم رتّب لهم تأليف السور بعد أنْ لم يكن فعل ذلك\" (26).
ثمّ أضاف مبيّناً \"أنّ مَن قال مِن أهل العلم: «إنّ تأليفَ سور المصحف كان واجباً عن توقيف من الرسول» لا يقول مع ذلك: إنّ تلقين القرآن وتلاوته والصلوة به يجبُ أن يكون مرتّباً على حسب الترتيب الموقف عليه في المصحف، بل إنّما يُوجبُ تأليف سُوَرِه كذلك في الرسم والكتابة. ولا نعلمُ أحداً منهم قال: إنّ ترتيب ذلك واجبٌ في الصلوات المفروضة وغيرها، وفي تلقين القرآنِ ودرسه، وإنّه لا يَحِلُّ لأحدٍ أن يتلقّن الكهف قبلَ البقرة، ويقرأ في صلوته الحجّ بعد الكهف، ولا أن يدرس البقرة ثمّ يدرس بعدها النحل أو الرعد. هذا ممّا لا نعرفُه مذهباً لأحدٍ، وإن كان وجوبُ الترتيب في الرسم والكتابة مذهباً لجماعة من أهل العلم والقرآن\" (27).
ثمّ أجمل ردّه وجوابه على النحو التالي: \"والذي نقوله: إنّ تأليف السور ليس بواجب في الكتابة ولا في الصلوة ولا في الدرس ولا في التلقين والتعليم؛ وإنّه لم يكن من الرسول في شيء من ذلك نصٌّ على ترتيب، وتضييقٌ لأمرٍ حدَّه، لا يجوز تجاوزُه؛ فلذلك اختلفت تأليفات المصاحف التي قدّمنا ذكرها. واستجاز الرسولُ والأئمّةُ من بعده وسائرُ أهل أعصار المسلمين تركَ الترتيب للسور في الصلاة والدرس والتلقين والتعليم\" (28).
أقول من جهتي تعليقاً على رأي الإمام الباقلانيّ: إنّ مسألة ترتيب السور في المصحف لم تكن باجتهاد مطلق ولا توقيف مطلق، بل هي بين بين، وذلك لأنّ ترتيب السور على النزول مثلاً، كما هو الحال في بعض هذه المصاحف، يستند أوّلاً وآخراً على فكرة النزول الذي هو بالأساس توقيفيّ، بينما ينحصر الاجتهاد هنا في تحرّي الصحابيّ الدقّة وصحّة النقل في ترتيب السور وتسلسلها الزمنيّ. كذلك الأمر بالنسبة لترتيب السور على الطول والقصر أو على الموضوعات والمضامين، لأنّ الصحابيّ منهم لم يكن بمعزل عمّا كان يسمعه من قراءة الرسول عليه السلام، وتلاوته للقرآن الكريم، خاصّة في تلك المناسبات المتكرّرة، كصلاة الجمعة؛ فقد رُوي عنه عليه السلام أنّه كان يقرأ في الركعة الأولى من صلاة الجمعة بسورة الجمعة وبالركعة الثانية بسورة (إذا جاءك المنافقون)، كما أخرج ذلك مسلم (29) وغيره (أبو داود والترمذيّ والنسائيّ وابن ماجه) عن أبي هريرة رضي الله عنه. فلا مجال هنا لادّعاء
الاجتهاد في ترتيب هاتين السورتين، كما هما في المصحف [الجمعة 62 وتليها المنافقون 63]، على الحجم (الطول والقصر) أنّهما متساويتان في عدد الآي [كلّ واحدة منهما إحدى عشرة آية] أو على الموضوع والمضمون أنّ الأولى لتحريض المؤمنين والثانية لتوبيخ المنافقين، وذلك بعد سماع الرسول عليه السلام يقرأهما مراراً وتكراراً على هذا النحو من الترتيب. والشواهد من هذا القبيل كثيرة عديدة لا يتّسع المجال هنا من ذكر المزيد منها.
تَبَقّى أنْ تُبحث قضيّة أخرى متعلّقة بمصحف عقبة بن عامر الجهنيّ: لماذا لم يُقبض على مصحفه في إطار حملة عثمان بن عفّان لتوحيد الأمّة على نصٍّ واحد معتمد، كما قُبضت مصاحف غير الممتنعين، علماً بأنّ عثمان كان \"يشدّد ويصعّب في قبض المصاحف المخالفة لمصحفه وفي المطالبة بها وتحريقها ودرس آثارها والمنع من العمل على ما فيها\" (30)؟! بكلمات أخرى: هل تنحصر مخالفات المصاحف لمصحف عثمان فيما قلّ أو كثر من زيادة أو نقصان في النصّ القرآنيّ أم تتعدّى ذلك، فتشمل أيضاً مخالفة ترتيب السور؟
إنّ الجواب على هذا السؤال يحتمل وجهين. الأوّل هو أن تكون المخالفات منحصرة على المتون القرآنيّة دون ترتيب السور. يعضد ذلك ويقوّيه هو أنّ عقبة بن عامر الجهنيّ لم ينقل بحقّه قراءة واحدة مخالفة للمصحف الإمام. أمّا الثاني، فليس بمستبعد أنّه كان بعيداً في هذه الحقبة عن ساحة الأحداث كلّ البعد، إذ لم يكن له فيها ظهور بارز وحضور قويّ إلا بعد شهوده (صفِّينَ) إلى جانب معاوية وتولّيه مصر من قبله.
ولعلّ في إقامته بدمشق بعيداً عن مركز السلطة والأحداث الجارية آنذاك عاملاً مساعداً في بقائه خارج الصورة. قد يكون هذا وذاك جنّبه كلّيّةً ما كان يجري وقتها، فاحتفظ بمصحفه لنفسه وجلبه معه إلى مصر، حيث آل إلى المحدّث ابن قديد.
من جهة أخرى تشكّل مسألة ترتيب سور مصحف عقبة بن عامر الجهنيّ على غير ترتيبها في المصاحف العثمانيّة دلالة قاطعة على أنّ مصحفه من جملة المصاحف التي دُوّنت في الصدر الأوّل قبل المصاحف العثمانيّة التي أصبحت نموذجاً يُحتذَى به في مرسومها وترتيب سورها.
¥