السبب الثامن: أن يكون للشخص أتباع يظن أنهم ينصرونه ولا يتخلون عنه، فلا يقع ما ظنه منهم فينتقم منهم -من حيث يشعر أو لا يشعر- بمخالفة منهجهم ولو كان صواباً، وكل نبي حمل أعباء الدعوة وحده، وتحمل ما يناله منها وحده، ولم ينتظروا نصرة من غير الله تعالى، وهم قدوة الدعاة إلى الله تعالى.
أسباب تتعلق بالمجتمع (مجتمع العلماء والدعاة):
السبب الأول: صد الطاقات الواعدة، والمواهب الصاعدة، وإهمالها وعدم العناية بها، مع أنها ترى أنها أميز من غيرها من الأقران، والواجب على التابع أن لا يؤثر ذلك فيه لكن بعض الأتباع ضعيف، فعند إهمال المتبوع له -عالم أو داعية أو مرب- يفارق التابع مجلس متبوعه ودرسه، وربما انقلب عليهم بالحط والثلب، وحينها يجد من يتلقفه من أهل الشر، فيرفعه ويعتني به ويستخدمه معول هدم للحق، وأذكر أن فتى يافعاً نبيهاً صار بينه وبين مشايخ بلدته جفوة واختلاف فيمم شطره لبعض مشاهير الشعراء من النصارى، فاعتنى به عناية فائقة لما رأى من نبوغه وعبقريته، وظل يتعاهده ويواصله بالمراسلة مع أن هذا الفتى في العشرينيات، والنصراني في الثمانينيات.
وحدثني بعض أهل العلم والأدب عمن عاصر عبد الله القصيمي - العالم السلفي الذي انقلب إلى ملحد- أن من أسباب صدوده عن أهل العلم، وثورته على الدين وأهله أنه لما قدم من مصر كان يعتمر العقال، ويعتني بمظهره اعتناء زاد على المألوف، فكأن بعض أهل العلم استوحشوا ذلك منه فجفوه، وكان دُعي إلى وليمة لبعض أهل العلم، فلم يأبهوا به ولم يقدموه، فحمل ذلك في نفسه وفارقهم.
وفي مقابل ذلك نرى جلدا من أتباع الباطل في تكثير أتباعهم، والدفاع عنهم، واستماتتهم في نشر باطلهم، وكان لي قريب في المرحلة المتوسطة وكان كتب قصيدة فيها شيء من تمرد ونشرها في بعض الصحف، فاطلع عليها سفير سبعيني، فأرسل له رسالة خاصة يثني عليه بها.
ورأيت شاباً انتحل مذهب الحداثيين في التمرد، فجاوز المعهود في قوله، فأُخذ به، فوقف معه الحداثيون وسائر المنحرفين وقوفاً عجيباً، ودافعوا عنه باستماتة حتى ألغوا ما يستحق من العقاب.
وفي مقابل ذلك فإن كثيراً ممن ابتلوا وهم على الحق لم يلتفت لهم أحد، فربما ضعف بعضهم بسبب ذلك، وانقلب على منهجه السابق.
وتفسير خذلان أهل الحق لأتباعهم، ونصرة أهل الباطل لأفراخهم أن أهل الباطل في مجتمعات المسلمين هم الأقلية، وأهل الحق هم الأكثرية، ومن السنن البشرية أن الأقلية دائمة التكتل، وتسعى في تكثير الأتباع، وتكون معتادة على أجواء التوتر، وتتقن التعامل مع الأزمات، بينما الأكثرية تكون في حالة أمن واسترخاء، ولم تعتد على أجواء التوتر، ولا تحس بفقد بعض أفرادها لكثرتهم. كما أن الحكومات قد تعودت من الأقليات على أنواع من التمرد فلا تستنكره منهم مهما كان عظيماً، بخلاف الأكثرية التي يستكثر منها ما هو صغير.
السبب الثاني: الانفصام بين العلم والعمل: فأحياناً يقع الطالب على مخالفة وقع فيها شيخه -وهو يراه مثله الأعلى- فيسقط من عينه، ويجني على نفسه بإسقاط المنهج الذي ينتهجه شيخه، ويبحث له عن منهج آخر، وقد حُدثت عن بعض أهل العلم ممن هام في بعض المبتدعة، فتعصب له أن بداية ذلك: رحلته لشيخ يأخذ عنه، فرأى في بيته ما يكره أن يراه من شيخه، فنفر منه وتحول إلى شيخ مبتدع كان قد سمع به، فرآه على حال من الزهد لم يره في شيخه الأول، فكان ذلك فتنة له؛ فلزمه وهام به، وركب شيئاً من بدعته. ولو أنه أحسن لسأل شيخه عما كره فلعله معذور فيه، أو متأول، أو غير ذلك. ولو وفق للهدى لفرق بين علم الرجل وسمته؛ فليس كل زاهد في الدنيا يصيب السنة، وليس كل مخطئ في سلوكه يهجر لخطئه ولو كان من علماء السنة، والحق يعرف بالأدلة من الشريعة، ولا يعرف الحق بالرجال، كما أن الباطل يعرف بطلانه بالأدلة، ولا يحيله زهد صاحبه إلى حق.
السبب الثالث: ضعف الفقه في علاج خطأ من أخطأ من أهل العلم والصلاح، أو فعل خلاف ما هو أولى أو ما لا يليق بأمثاله، أو أتى بقول شاذ، فيكون حقه التعنيف والتقريع والسخرية في كثير من الأحيان مما يجعله يصر ويكابر ويدافع عن موقفه ولو كان خطأ، وهنا يتسلل الشيطان إلى قلبه، ويركبه أهل السوء والنفاق؛ لتنفيره من أهل استقامة والصلاح، أو يحرج فيجتنبهم فيجد في الطرف الآخر من يحسن استقباله وتسليته.
¥