[من وسائل غرس العقيدة في نفوس الناس]
ـ[مسلم الحربي]ــــــــ[20 - 01 - 04, 06:08 م]ـ
إنَّ غرس العقيدة في نفوس الناس من أهم الواجبات المنوطة بالعالم والداعية؛ فقد مكث المعلِّم الأول صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة في مكة يدعو النَّاس إلى التوحيد، وإلى غرس العقيدة في نفوس النَّاس0
ومن أساليبه صلى الله عليه وسلم في ترسيخ العقيدة الصحيحة عند صحابته رضوان الله عليهم ما يلي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة)) فقال أعرابيّ: يارسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأَنَّها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فمن أعدى الأول)) 0
قال ابن حجر- رحمه الله تعالى- عند شرحه هذا الحديث في فتح الباري (10/ 252) قال: ((قوله (فيجربها) وهو بناء على ما كانوا يعتقدون من العدوى، أي يكون سببًا في وقوع الجرب بها، وهذا من أوهام الجهَّال، كانوا يعتقدون أنَّ المريض إذا دخل في الأصحاء أمرضهم فنفى الشَّارع ذلك وأبطله، فلما أورد الأعرابيّ الشّبهة رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((فمن أعدى الأول)) وهو جواب في غاية البلاغة والرَّشاقة، وحاصله من أين جاء الجرب الأول الذي أعدى بزعمهم؟ فإن أصيب من بعير آخر لزم التسلسل أو سبب آخر فليفصح به، فإن أجيب بأن الذي فعله في الأول هو الذي فعله في الثاني ثبت المدعى؛ وهو أنَّ الذي فعل بالجميع ذلك هو الخالق القادر على كلِّ شيء وهو الله سبحانه وتعالى)) 0
قال العلامة ابن عثيمين في القول المفيد على كتاب التوحيد (2/ 100 - 102) قال- رحمه الله تعالى: ((000 وهذا النفي في الأمور الأربعة ليس نفيًا للوجود؛ لأنها موجودة، ولكنه نفي للتأثير؛ فالمؤثِّر هو الله، فما كان منها سببًا معلومًا؛ فهو سبب صحيح، وما كان منها سببًا موهومًا؛ فهو سبب باطل، ويكون نفيًا لتأثيره بنفسه إن كان صحيحًا، ولكونه سببًا إن كان باطلاً0
فقوله: ((لا عدوى)): العدوى موجودة، ويدل لوجودها قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يورَدُ مُمْرِضُ على مُصِحٍّ))؛ أي: لا يورد صاحب الإبل المريضة على صاحب الإبل الصحيحة؛ لئلا تنتقل العدوى0
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فر من المجذوم فرارك من الأسد)) 0
والجذام مرضٌ خبيثٌ معدٍ بسرعة ويتلف صاحبه؛ حتى قيل: إنه الطاعون؛ فالأمر بالفرار من المجذوم لكي لا تقع العدوى منه إليك، وفيه إثبات لتأثير العدوى، لكن تأثيرها ليس أمرًا حتميًّا، بحيث تكون فاعلة، وأَمْر النبي صلى الله عليه وسلم بالفرار، وأن لا يورد ممرض على مصح من باب تجنب الأسباب لا من باب تأثير الأسباب بنفسها؛ فالأسباب لا تؤثر بنفسها، لكن ينبغي لنا أن نتجنب الأسباب التي تكون سببًا للبلاء؛ لقوله تعالى: ((ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)) ولا يمكن أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينكر تأثير العدوى؛ لأن هذا يبطله الواقع والأحاديث الأخرى0
فإن قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: ((لا عدوى0 قال رجل: يا رسول الله! الإبل تكون صحيحة مثل الظِّباء، فيدخلها الجمل الأجرب فتجرب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن أعدى الأول؟))، يعني أن المرض نزل على الأول بدون عدوى، بل نزل من عند الله- عز وجل-؛ فكذلك إذا انتقل بالعدوى؛ فقد انتقل بأمر الله، والشيء قد يكون له سبب معلوم وقد لا يكون له سبب معلوم، فَجَرَبُ الأول ليس سببه معلومًا؛ إلا أنه بتقدير الله تعالى، وَجَرَبُ الذي بعده له سبب معلوم، لكن لو شاء الله تعالى لم يَجْرَب، ولهذا أحيانًا تصاب الإبل بالجرب، ثم يرتفع ولا تموت، وكذلك الطاعون والكوليرا أمراض معدية، وقد تدخل البيت فتصيب البعض فيموتون وَيَسْلَم آخرون ولا يصابون0
فالأنسان يعتمد على الله، ويتوكل عليه، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل مجذوم؛ فأخذه بيده وقال له: ((كل من الطعام الذي كان يأكل منه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوة توكله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا التوكل مقاوم لهذا السبب المعدي0
وهذا الجمع الذي أشرنا إليه هو أحسن ما قيل في الجمع بين الأحاديث، وادَّعى بعضهم النسخ؛ فمنهم من قال: إن الناسخ قوله: ((لا عدوى))، والمنسوخ قوله: ((فر من المجذوم))، ((ولا يورد ممرض على مصح))، وبعضهم عكس، والصحيح أنه لا نسخ؛ لأن من شرط النسخ تَعَذُّر الجمع، وإذا أمكن الجمع وجب الرجوع إليه؛ لأن في الجمع إعمال الدليلين، وفي النسخ إبطال أحدهما، وإعمالهما أولى من إبطال أحدهما؛ لأننا اعتبرناهما وجعلناهما حجة، وأيضًا الواقع يشهد أن لا نسخ)) 0