تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأنتقل إلى قراءة ثالثة لنفس القصة، هذه المرة من القرآن الكريم، حيث يتلوها علينا تلاوة جديدة، تحاول أن تُجرّد القصة من الملابسات التاريخية التي لحقت بها سواء في القراءة الأولى أو القراءة الثانية أو غيرها من القراءات. وتقدّم لنا من خلالها اقتراحا مهما يحتاج منا لشيء من التدبر والمدارسة.

نعم لقد كان هناك حوار بين الله وربه، ولكن ليس في شأن النسل ولا الأرض ولا الوعد بالأرض، وإنما في أمر أهم من ذلك بكثير، إنه أمر إحياء الموتى؛ فإبراهيم صاحب الرشد كثير الأسئلة في موضوع الاعتقاد، كانت له مشاكل كثيرة مع أبيه وقومه وملكه أدت به إلى أن كاد يفقد حياته في النار لولا أن الله نجاه منها؛ فالحياة بعد الموت لغز محير، وهو يريد معرفة بعض أسراره، ولذلك سأل ربه: رب أرني كيف تحيي الموتى؟، فهو لا يريد الخبر فقط، وإنما يريد أن يرى كذلك، فكان الردّ الإلهي عن سبب هذا السؤال: هل بسبب عدم الإيمان؟ أو النقص في الإيمان أم ماذا؟ فكان الجواب الإبراهيمي أنه الرغبة في الزيادة في الإيمان والاطمئنان: قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي؛ وهنا يأتي الجواب الإلهي دعوة إلى العمل التجريبي في أبسط مفرداته، خذ أربعة من الطير، فصرهن إليك، واجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن ياتينك سعيا، واعلم أن الله عزيزحكيم، وحتى يقوم بهذه العمليات على بساطتها، فعليه أن يصعد إلى جبال متعددة ليجعل على كل واحد منها جزءا من الطير، يصعد وينزل واحدا بعد واحد، حتى يوزع كل الأجزاء، ثم يأتي ليدعوها فتأتيه سعيا إليه بإذن الله، وهي تجربة مهمة تجعل إبراهيم يدرك القدرة الإلهية على بعث الحياة في قطع ميتة يبعد بعضها عن بعض بأميال عديدة، فتحيى وتطير.

إن آية إبراهيم كما تلاها علينا القرآن الكريم تصدق ما جاء في الكتاب المقدس في شأنها، ولكنها في نفس الوقت تبين ما أراد المنكرون للبعث أو الحساب أو اليوم الآخر كتمانه، وتبين ما ألبسوا فيه الحق بالباطل وكتموا الحق وهم يعلمون لأنه لا يتماشى مع عنصريتهم التي ما أنزل الله بها من سلطان.

إن الرجوع إلى النصين السابقين ومقارنتهما بالنص القرآني ليكشف لنا أن البعد الغيبي وخصوصا الآخرة فيه قد حاول المنكرون له كتمانه، ووضع مفاهيم أخرى محله ونسبتها إلى الله عز وجل، ولكن البحث والدراسة والمقارنة تبين كل محاولات التزوير والتحريف الفاشلة، كما تكشف الأخطاء التي يقع فيها الكتاب والرواة، والإضافات التي يضعها النساخ أو الشراح والمفسرون وغيرهم، عن قصد أو عن خطإ، وبالمقارنة نستطيع معرفة العوامل الإنسانية المؤثرة في تدوين النصوص وترجمتها وتوثيقها وغير ذلك.

كما أن هذه المقارنة تجيب على سؤال محوري لم يجد بعد الإجابة الوافية عليه، وهو قولهم إن القرآن الكريم قد أخذ من كتب اليهود والنصارى القانونية والأبوكريفا وصاغها بلسان عربي؟ والصحيح أن للقرآن الكريم قراءة جديدة عميقة لما جاء في الكتب المقدسة يصدق الحق الموجود فيها ويؤكده، ويبين الدخيل المرتبط بالأحوال الخاصة للناس في الأزمنة المختلفة ويرده إلى قائليه؛ نفس الأمر يمكن تطبيقه على البعث واليوم الآخر في الكتب المقدسة، فهو أصيل جاء به الأنبياء جميعا، وهو منصوص عليه بكثرة ودقة في كل الكتب المقدسة، وكان كل نبي يعيد له الاعتبار بعد أن يكون الناس قد طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وتركوه، ولم يظهر في زمن معين متأخر كما ذكره لنا الدارسون الذين يقرأون الكتب في ترتيبها التاريخي، منطلقين من فرضية أن الوحي والدين نتاج اجتماعي يعبر على تطور الفكر البشري؛ وإنما هناك أسس خالدة أوحى الله بها إلى رسله جميعا، وهناك فهم وفكر وعلم ومعرفة تتطور عبر الزمان، ولا يفترض أن هذه الأسس الخالدة قد اكتشفها العقل البشري في تاريخ الإنسان ولم يوح بها الله في كتب الأديان.

2 التوحيد والشرك:

ونتناوله من خلال قصة إبراهيم مع أبيه وقومه في هدم مذبح البعل وبناء بيت الله.

رغم محاولة الإخفاء البينة لموضوع التوحيد والشرك الذي تمثله قصة إبراهيم مع أبيه قبل الهجرة، في النصوص القانونية، إلا أن سفر يشوع بين لنا بما لا يقبل المراء أن إبراهيم قد ترك أباه وقومه وذهب إلى الأرض المباركة للعالمين هروبا من شركهم ونجاة من كيدهم؛ وهو ما سنتعرض له في هذه الفقرة الثانية من المبحث الأول.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير