لقد أفردت لنا أكثر الأسفار غير القانونية المتحدثة عن قصة إبراهيم مجالا للحديث عن علاقته بأبيه وقومه المشركين تماما مثل ما فعل القرآن الكريم، خلافا للنص الحاخامي القانوني، الذي غلب عليه الطابع المذهبي العنصري، الذي اهتم كثيرا بالعهد الأرض واستعادة الملك ووراثة النسل الإسرائيلي له من دون العالمين؛ فغُيّب الحديث عن موضوع البعث وموضوع التوحيد والشرك الذي أفاضت فيه نصوص القصة الإبراهيمية في المصادر الأخرى كما سنراه.
جاء في "رؤيا أبراهام" حديث مهم عن مجادلة إبراهيم لأبيه في أمر الأصنام والمعبودات من دون الله؛ فبعد أن بيّن إبراهيم تفاهة الآلهة المنحوتة والمصنوعة من الحجر والخشب عندما انكسرت واحترقت، انتقل لبيان تفاهة المعبودات من جميع المخلوقات أمام الله، فقال:
"وقلت: النار أكثر جدارة بأن تعبد من الأصنام، لأن ما لا يخضع يخضع لها، وهي تسخر مما يهلك بلا عذاب في نيرانها. ولكن حتى هذه الأخيرة فإنني لا أسميها إلها لأنها تخضع للماء. فأكثر جدارة بالعبادة هي المياه، لأنها تنتصر على النار وتغذي الأرض. لكنها هي أيضا لن أسميها إلها لأنها برشحها تحت الأرض فإنها تخضع لها. فأدعو الأرض أكثر جدارة بالعبادة لأنها تنتصر على طبيعة المياه وحجمها. لكنها هي أيضا لن أسميها إلها، لأنها هي أيضا تجف بالشمس وتخضع لعمل الإنسان. فأكثر من الأرض أدعو الشمس أكثر جدارة بالعبادة، لأنها تنير بأشعتها العالم ومختلف الأجواء. ولكن هذه الأخيرة لن أضعها بين الآلهة، لأن سيرها يعتم في الليل بواسطة السحب. وكذلك لن أسمي القمر إلها ولا النجوم، لأنها هي أيضا تعتم نورها في وقتها في الليل." [16]
وبعد هذا التقليب للنظر في مظاهر الطبيعة المختلفة، وجه إبراهيم وجهه وفكره وفكر أبيه ومعاصريه إلى الله رب كل شيء، قال: "فاسمع يا تراخ، يا أبي، سأفتش أمامك عن الإله الذي خلق الأشياء كلها وليس عن الآلهة التي نخترعها نحن:
"فمن هو إذن، أو ما هو الذي حمر السماوات، والذي ذهب الشمس، الذي أعطى النور للقمر ومعه للنجوم، من الذي جفف الأرض مع وجود المياه الكثيرة، ومن الذي أقامك أنت نفسك بين البشر؟ هل يمكن لله أن يكشف نفسه بنفسه لنا؟ " [17]
نجد مثل هذا النص في أدبيات يهودية كثيرة كلها تتحدث عن الرشد الإبراهيمي والمواجهة التي كانت بين إبراهيم وبين أبيه وقومه وملكه في أمر المنحوتات والمصنوعات والمعبودات من دون الله، نكتفي بما أوردناه في الدلالة عليها.
نفس الأمر نجده في التلاوة القرآنية الجديدة التي تصدق ما بين يديها من الكتاب وتعيد الاعتبار للمعاني المخفية أو المهمشة التي كتمتها المذاهب والفرق والاتجاهات المختلفة لأسباب مختلفة؛ قال تعالى:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) [18]
إنه نفس الخطاب الديني الذي حاول فريق من أهل الكتاب إخفاءه خلف أهداف أرضية وعنصرية لا علاقة لها بدين الله الذي أنزله في كتابه؛ وجاء القرآن بالنور المبين الذي يبين ما يخفون من الكتاب ويعفو عن كثير.
وهذا كتاب الخمسينيات يحدثنا عن الجدل بين إبراهيم وأبيه وقومه في نفس الموضوع، قال:
¥