إنها مفارقة عجيبة سارت إليها الرواية الحديثية، بعيدا كل البعد عن مسار القرآن، وقريبا جدا من روح الفكر التوراتي الحاخامي؛ فهل كان الامر مصادفة؟؟؟
المرحلة الثانية: هجرة إبراهيم
يمثل الجزء الثاني من حياة إبراهيم الخليل 60 في المائة من حديث القرآن الكريم، بينما يمثل ما يناهز 98 في المائة من حديث النص التوراتي الحاخامي؛ ويبدأ من خروج إبراهيم من أرضه وعشيرته وبيت أبيه.
بدأ الحديث عن هذا الموضوع في أسفار العهد القديم منذ الإصحاح الثاني عشر من سفر التكوين، منذ أن أمر الله إبراهيم بالخروج من بيت أبيه؛ حيث قال له:
(12:1) وَقَالَ الرَّبُّ لابْرَامَ: «اذْهَبْ مِنْ ارْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ ابِيكَ الَى الارْضِ الَّتِي ارِيكَ. (2) فَاجْعَلَكَ امَّةً عَظِيمَةً وَابَارِكَكَ وَاعَظِّمَ اسْمَكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً. (3) وَابَارِكُ مُبَارِكِيكَ وَلاعِنَكَ الْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الارْضِ».
(4) فَذَهَبَ ابْرَامُ كَمَا قَالَ لَهُ الرَّبُّ وَذَهَبَ مَعَهُ لُوطٌ. وَكَانَ ابْرَامُ ابْنَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً لَمَّا خَرَجَ مِنْ حَارَانَ. (5) فَاخَذَ ابْرَامُ سَارَايَ امْرَاتَهُ وَلُوطا ابْنَ اخِيهِ وَكُلَّ مُقْتَنَيَاتِهِمَا الَّتِي اقْتَنَيَا وَالنُّفُوسَ الَّتِي امْتَلَكَا فِي حَارَانَ. وَخَرَجُوا لِيَذْهَبُوا الَى ارْضِ كَنْعَانَ. فَاتُوا الَى ارْضِ كَنْعَانَ. (6) وَاجْتَازَ ابْرَامُ فِي الارْضِ الَى مَكَانِ شَكِيمَ الَى بَلُّوطَةِ مُورَةَ. وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ حِينَئِذٍ فِي الارْضِ.
(7) وَظَهَرَ الرَّبُّ لابْرَامَ وَقَالَ: «لِنَسْلِكَ اعْطِي هَذِهِ الارْضَ». فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحا لِلرَّبِّ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ.
(8) ثُمَّ نَقَلَ مِنْ هُنَاكَ الَى الْجَبَلِ شَرْقِيَّ بَيْتِ ايلٍ وَنَصَبَ خَيْمَتَهُ. وَلَهُ بَيْتُ ايلَ مِنَ الْمَغْرِبِ وَعَايُ مِنَ الْمَشْرِقِ. فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحا لِلرَّبِّ وَدَعَا بِاسْمِ الرَّبِّ.
(9) ثُمَّ ارْتَحَلَ ابْرَامُ ارْتِحَالا مُتَوَالِيا نَحْوَ الْجَنُوبِ. [32]
لقد رأينا فيما سبق كيف أن الأسفار القانونية أغفلت موضوع الشرك الذي كان عليه أبوه وقومه وملكه، وأغفلت دعوة إبراهيم إلى التوحيد ومجادلته لقومه واحتجاجه عليهم حتى كسر أصنامهم فقرروا إحراقه بالنار فأنجاه الله منها؛ كما رأينا أن خروجه عليه السلام من أرضه إنما كان بسبب ذلك.
وسنرى فيما يلي هجرة إبراهيم؛ والتي يظهر أنها هجرة عادية، وإن كانت بأمر من الله؛ يتنقل فيها إبراهيم من مكان إلى مكان، فها هو يجتاز في شكيم إلى بلوطة مورة، ثم يبني مذبحا هناك؛ ثم ينتقل من هناك إلى الجبل شرقي بيت إيل حيث ينصب خيمته، ويبني هناك مذبحا للرب ويصلي هنالك ويدعو باسم الرب، ثم يرتحل ارتحالا متواليا نحو الجنوب.
إنها هجرة مليئة بالتنقل والترحال، بحثا عن الأرض الموعودة، التي لم يستقر بها إبراهيم أبدا؛ والتي كان دائما يسعى للحصول عليها؛ ورغم الصلاة والذبح والدعاء والبركة في هذه الأماكن إلا أنها لم تأخذ أبعادا قدسية، وكانت صورة إبراهيم دائما هي صورة البدوي المتنقل الباحث عن مكان الاستقرار المؤقت في أرض الأغيار.
مقابل هذه الصورة المهتزة لإبراهيم المرتحل، يقدم لنا القرآن الكريم صورة جديدة تربط إبراهيم بأرض القداسة وتجعله إماما للعالمين من أجل مباركتهم في عهد أبدي بينه وبين ربه وبين ذريته غير الظالمين من بعده، بناء على نجاحه في الامتحانات التي كانت من قبل، قال تعالى:
- وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) [33]
¥