إن قضية الموضعين بيت إيل وعاي، هي قضية أهم مكانين تتجمع فيهما شعائر الحج، فالموقع الأول هو موقع بيت الله (بيت إيل)، ويضم الكعبة وبئرها والصفا والمروة وكل الطرق التي توصل إليها، وفيه يقوم الناس بجزء من طقوس الحج، كما يقومون بالعمرة كاملة؛ وأما الموقع الثاني (عاي، التي تعني الرجمة) فيضم مجموعة أخرى من الشعائر، تبدأ بالمبيت بالوادي، ورمي الجمرات، والمبيت بمنى، والوقوف بعرفات، والنحر وتقديم الهدي والصدقات والنذور وغيرها؛ وهو جزء لا يتجزأ من شعيرة الحج؛ وهو لا يكون إلا في موسم الحج، وليس من ضمن شعائر العمرة التي يمكن القيام بها طيلة شهور السنة في الموقع الأول فقط.
والتنصيص على نصب الخيمة بين بيت الله وعاي، إنما هو للإقامة حتى يتمكن الحاج من آداء مختلف الشعائر من غير مشقة، وهي سنة الحجاج إلى يوم الناس هذا.
ويطلق على المكان كله أحد أسماء الشعائر المختلفة، فهو بيت الله، والبيت الحرام، وهو الكعبة، وهو الحج؛ ولاشك أن من حج إلى بيت الله في موسم الحج فعليه أن يقوم بكل الشعائر، وأما من اعتمر فعليه أن يقوم ببعض تلك الشعائر دون وقوف بعرفات ولا رمي جمار وما يرتبط بهما من شعائر أخرى خاصة بموسم الحج.
ويشير النص إلى الغنى الذي كان يتمتع به إبراهيم، الذي كان له الكثير من المواشي والذهب والفضة، وتتضمن هذه الإشارة قضية إخراج العشور التي تقدم بشكل قرابين في هذا المكان المقدس. كما يشير إلى الذهاب والإياب في طول وعرض هذا المكان، والذي يعبر عنه بقوله: إن ذهبت شمالا فأنا يمينا، وإن يمينا فأنا شمالا [53]؛ و وهو تعبير عن طقس السعي الذي فيه الطواف بين الصفا والمروة من الشمال إلى اليمين ومن اليمين إلى الشمال، سعيا متواليا (سبعة أشواط). وإن فعل ارتحل الذي استعمله المترجم العربي أفقد النص حمولته الدينية، ولعلنا بالرجوع إلى النص العبري نسترجع بعض هذه الحمولة، حيث يستعمل فعل:"???" "نسع"والذي يقابله فعل "سعى" بالعربي، فيصير المعنى: أن إبراهيم "سعى سعيا متواليا في أرض الجنوب"، " ???? ???? ???? ????? ?????" [54] ? وإن كثيرا من أسماء الشعائر وأفعال العبادة في هذا البيت الحرام لا زالت محافظة على مسمياتها كما هي في الكتاب المقدس، وكما كانت منذ اليوم الأول، وهي تشهد على مصداقية هذا البيت القائم اليوم، وارتباطه بالأب إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
إقامة إبراهيم عند بلوطات ممرا:
يواصل سفر التكوين تحديثنا عن أعمال إبراهيم عليه السلام، والتي هي في أغلبها طقوس عبادة ترتبط ببيت الله الحرام، وتقدّم للناس مناسكهم كما تعلّمها أبوهم إبراهيم من ربه:
"وَقَالَ الرَّبُّ لابْرَامَ بَعْدَ اعْتِزَالِ لُوطٍ عَنْهُ: «ارْفَعْ عَيْنَيْكَ وَانْظُرْ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي انْتَ فِيهِ شِمَالا وَجَنُوبا وَشَرْقا وَغَرْبا
لانَّ جَمِيعَ الارْضِ الَّتِي انْتَ تَرَى لَكَ اعْطِيهَا وَلِنَسْلِكَ الَى الابَدِ.
وَاجْعَلُ نَسْلَكَ كَتُرَابِ الارْضِ حَتَّى اذَا اسْتَطَاعَ احَدٌ انْ يَعُدَّ تُرَابَ الارْضِ فَنَسْلُكَ ايْضا يُعَدُّ.
قُمِ امْشِ فِي الارْضِ طُولَهَا وَعَرْضَهَا لانِّي لَكَ اعْطِيهَا».
فَنَقَلَ ابْرَامُ خِيَامَهُ وَاتَى وَاقَامَ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا الَّتِي فِي حَبْرُونَ وَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحا لِلرَّبِّ [55].
يمكن أن نسجل في هذا الخطاب الإلهي أمرا لإبراهيم بالمشي في الأرض طولا وعرضا؛ ولا علاقة لهذا المشي بامتلاك الأرض التي شغلت الذهن اليهودي، والكاهن والمفسر الكتابي، وفرضت عليه أن يفهم كل أوامر الله وشرائعه في إطار تحقيق الأماني والأحلام اليهودية الأرضية. وإنما يرتبط هذا المشي بالهدف الذي جاء من أجله إبراهيم إلى الأرض المباركة؛ وهو ما يفسره السلوك الإبراهيمي استجابة لأمر ربه: لقد نقل خيامه وأتى وأقام عند بلوطات ممرا، وبنى هناك مذبحا للرب؛ ولا يختلف الأمر الإلهي لأبرام في هذه المقاطع [56]، بالمشي في الأرض طولها وعرضها، عن قول لوط السابق لأبرام بالذهاب في الأرض شمالا وجنوبا، وعن النص الذي قبله المتحدث عن السعي المتوالي في أرض الجنوب، فهو كله تعبير عن طقس السعي المتوالي بين الصفا والمروة في المكان المقدس، ولذلك فقد استجاب أبرام لربه ونقل خيامه وأتى إلى بلوطات ممرا، (والتي هي المروة)،
¥