لم يقل أحد من الباحثين في الإعجاز العلمي أن صدق القرآن يتأسس على التوافق مع التجارب العلمية وقوانينها هذه واحدة.
الثانية علاقة المؤمن بالكتاب علاقة إيمانية قائمة على البرهان بطريقة أو أخرى وإلا لما كان لإيمان المسلم مزية على غيره من أهل العقائد المختلفة.
الثالثة القول بأن العلم لا يثبت بأدلة نصية فهذه مقولة غير صحيحة، فإذا أخبرنا الحق تبارك وتعالى أن العسل فيه شفاء للناس فهل نقول هذا علم أم لا؟ وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن شكى بطنه " اسقوه عسلا " لأن الله قال عنه شفاء، هل يعد هذا القول علميا أم لا؟
وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الذباب: " إن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء " فهل يعد هذا علما أو لا يعد؟
فإذا جاء باحث وأخضع العسل للتجربة في المعمل ووجد أن العسل يقضى على أنواع عديدة من البكتيريا ويمكن استخدامه في علاج العديد من الأمراض، وجاء آخر ووضع الذباب تحت المجهر واكتشف أن في أحد جناحيه بكتيريا ممرضة وفي الجناح الآخر بكتيريا مضادة للبكتيريا الممرضة، فهل يمكن نقول هنا أن النص والعلم قد اجتمعا في الدلالة على شيء واحد أو لم يجتمعا؟
-الإشكال الثاني: في أصل الفكرة والتسمية، فكلمة الإعجاز والمعجزة إنما تستلزم فكرة أساسية لا تقوم إلا بها، وهي التحدي، ويستلزم علم المتحدي وعجز المتحدى عن مضاهاة المتحدى به، بمعنى أن المسلم إذا ما ادعى أن القرآن معجز علمياً فينبغي أن يكون عالماً بالمضمون العلمي للإعجاز ابتداء قبل أن بعلمه الطرف الآخر، لكن الذي يحصل هو العكس، وهي أن من يبحثون في الإعجاز العلمي إنما يتعرفون على العلم من قبل من لا يؤمن بالقرآن أصلاً واكتشف المسائل العلمية بالتجربة، فيأتي الباحث الإعجازي ليأخذ نتائج أبحاث غيره وينظر في القرآن ليثبت أنها موجودة فيه، ولو لم يطلع على جهد هذا العالم أو ذاك لما اكتشف في القرآن إعجازاً، ولذلك تتكاثر قضايا الإعجاز العلمي مع تكاثر الاكتشافات واطلاع المسلمين عليها، وهذه الظاهرة هي عكس الإعجاز، فالعالم التجريبي لم يطلع على القرآن عند اكتشافه، والمسلم لم يكتشف العلم من القرآن قبل اكتشاف العالم له، فالعلاقة علاقة إسقاط، والأصل فيها التجربة العلمية وليس القرآن، فالذي كان ينبغي أن يتم حتى يستقيم ترتيب فكرة الإعجاز العلمي أن يصرح القرآن أو يدل على مسألة علمية بتفصيل لا يعلمه المخاطبون ثم يطلب منهم إثبات نقيضه أو التصديق به، وهذا ما لم يحصل، فلا يوجد تحد علمي في أي مستوى لقارئ القرآن، كل ما في القرآن عودة إجمالية إلى العلم والبحث والاكتشاف، ولم يسم تلك الظواهر إلا بما يؤكد هذه الدعوة القرآنية، فسميت"الآيات" وهي إشارة إلى الآفاق التي يمكن أن يكتشف العالم من خلالها الدلائل الكونية على التوحيد، فالمسألة العلمية في القرآن دعوة للاستدلال، لا التعجيز.
وهذا ليس إشكالا إلا في نظر الكاتب ومن يعارض فكرة الإعجاز، لأن الله تعالى تحدى بهذا القرآن الثقلين أن يأتوا بمثله دون أن يبين لهم وجه الإعجاز في هذا التحدي، وإذا ثبت أن هذا القرآن معجز فحصر إعجازه في جانب معين يحتاج إلى دليل.
وتعرف الباحثين في الإعجاز العلمي على الحقائق العلمية المكتشفة من قبل لا يؤمن بالقرآن ومن ثم التعرف على أن القرآن قد نص عليها أو أشار عليها لا يطعن في القضية، بل هو أقوى في بيان الحق وقيام الحجة.
وكون المكتشف للحقيقة العلمية غير مسلم أو لا علم له بدلالة القرآن عليها غير مؤثر في هذا المبحث.
ولا تعارض بين إعجاز القرآن وكونه دعوة للاستدلال.
- الإشكال الثالث: القطيعة الزمنية بين النص المعجز علمياً –حسب المدعى-، والقضية المكتشفة، بمعنى أن وصف الإعجاز ينبغي أن يكون قائماً في النص لا ينفصل عنه، وهو متجل فيه منذ عصر نزوله، وهذا ما نلحظه في وجوه الإعجاز التي تحدى بها القرآن منكريه، لكن في مسألة الإعجاز العلمي لم يكن موضوع العلم حاضراً في النص قبل اكتشاف العلم، وبالتالي لم يكن موضوع تحد فيه، وبناء على دعوى الإعجاز العلمي فإن هذا الجانب من الإعجاز ظل معطلاً قروناً طويلة حتى إذا اكتشفنا العلم الحديث اكتشفنا أن النص القرآني معجز، وهذا عين العجز عن فهم القرآن وتوقف فهمه على تجارب العلوم.
وهذه مغالطة أخرى فكثير من الأمور العلمية المنصوص عليها يؤمن بها أهل القرآن من خلال إيمانهم بصدق القرآن، وفرق بين الإيمان بالقضية العلمية لأنه قد نص عليها في القرآن وبين ظهور مصداقها من طريق العلم لمن لا يؤمن بالقرآن، وتأخر اكتشاف تلك الحقائق العلمية لا يطعن في هذا الجانب من الإعجاز القرآني بل هو مؤيد ومؤكد له، ثم إن إعجاز القرآن لا يتوقف على إدراك الناس جميعهم لذلك الإعجاز، فهو معجز في ذاته ولو لم يظهر لكل الناس.
يتبع إن شاء الله تعالى
ـ[محمد العبادي]ــــــــ[25 Nov 2010, 09:55 ص]ـ
مقال نفيس شامل، جزى الله كاتبه وناقله خيرا.
وهو يجمع أكثر ما قاله المنصفون وأهل العلم في هذا الشأن.
وتبقى الإشارة فقط إلى أن في القرآن الكريم إشارات واضحة مفهومة بلغة الخطاب الأول تدل على الإعجاز العلمي، كتفصيل خلق الجنين، والإشارة إلى عدم اختلاط البحرين العذب والمالح ... وغيرها من الأمثلة التي فهمها العرب بمعهود لغتهم، وأفادتهم علما جديدا، غير أن كشف حقيقته لم تتم إلا في العصر الحديث، وهذا هو الفرق بين الأمثلة الصحيحة والخاطئة في موضوع الإعجاز العلمي.
¥