?إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً? [الفتح:8 - 9].
ولَم يَكُن الرَّسُول ? في هَذا بِدعا مِن الرُّسل؛ بل هُو مُتَّبع لِمن سَبقَه مِن الأنبياء قبله.
فهذا نبي الله زَكريَّاء? لمَّا طَلب الوَلدَ استَجابَ الله دُعاءَه، وجَعل لَه آية، وَأمَره بِذكره ذِكرا كثيرا وتَسبيحِه بُكرَة وعَشيا؛ حَمدا .. وشُكرا .. واستِدرارا لِلمزيد ..
?قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ? [آل عمران: 41].
وقَد كانَ هَذا النبي الكَريم نِعم المُجيبين؛ فَلم يَكتَف بالامتثال بالأَمر في خاصَّة نَفسِه؛ بل خَرَج على قَومِه مِن المِحراب؛ فأوحى إليهم أن سبّحوا بكرة وعشيّا!
?فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً? [مريم: 11].
وهذا نبي الله دَاوود مِن قُوَّة تسبيحِه وذِكره، سخَّر الله الجِبالَ والطَّير يسبّحن مَعَه بالعَشي والإِشراق!
?وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ. وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ? [ص:17 - 20].
ولَم يَخرُج ابنُه سُليمان عَن هذا السَّنن العَظيم؛ بل اقتَفى سيرَة والِده وسيرَة الأنبياءِ مِن قَبلِه؛ حتَّى إنَّه تلهّى يَوما باستِعراض خُيولِه العَسكريَّة فداهمَته الشَّمس بالمَغيب؛ فخرَّ منيبا إلى ربّه، وطَفق على خُيولِه مَسحا بالسُّوقِ والأعناق!
?وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ. فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ. رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ? [ص:30 - 33].
ولَم يكتفِ ربُّ العِزَّة بأمر الرسول ? أن يتلو القرآن مع خاصّة نفسه فحسب، بل أمره أن يُصابِر ويرابط مَع إخوانِه بالغَداة والعَشي؛ وأن لا تعدوَ عيناهُ عَنهم؛ بدعوى أشغال الحياة الدُّنيا ..
?وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا? [الكهف: 28].
وما زينة الحياة الدنيا التي حذّر الله أن تُشغل الناس عن الذكر بالغداة والعشيّ؟
?الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً? الكهف46
فإذا كانَ أُسوَة الذَّاكرين؛ رسول الله ? مُحتاجًا إلى هذا الزَّاد الرُّوحاني المُتجدِّد، وهَذه المُصابَرة اليوميَّة المُتواصِلة، وإلا وَقع في بَراثن الغَفلَة؛ فكيفَ بِمن دُونه بأشواط؟!
وللأهمِّيَّة البالِغة لحلقَات الذِّكر في ِهذه الأَوقات المُبارَكة؛ في تَجديد الإيمان في القُلوب، وتَعليم النَّاس الكِتاب والحِكمَة لَم يَرتَض الخالِق العَظيم أن يُمنَع أحدٌ مِن شُهودِها؛ مَهمَا كانت الاعتبارات والمبرّرات!
فقَد جاء وَفد مِن أشرافِ قُريش إلى الرَّسُول ? في مَجلِسِه؛ فكأنَّهم أنِفُوا واستَنكَفُوا أن يُجالِسُوا فُقراء المُهاجِرين والأنصار لعزَّة فيهِم وحميَّة؛ فطلبُوا مِن رسُول الله ? أن يُخرِج هؤلاء مِن مَجلسِه حتَّى يستَمعُوا إليه، فأَنزلَ الله هذه الآية الكَريمة:
¥