أما الحياة العلمية في هذه الفترة، فقد عاشت حياة الاضطهاد، تحت حكم الإسماعيلية بإفريقية والمغرب ستاً وثمانين سنة، وقد مارسوا فيها جهودهم ضد الدعوة السنِّيَّة السلفية وراحوا في نشر بدعهم بجميع الوسائل، وقمع وإماتة السنّة بحقدهم، لكن رغم الظلم العظيم والضيق الشديد، كان أهل السنة من المحدثين والفقهاء بالمرصاد، رغم منعهم من التدريس في المساجد، ونشر العلم والاجتماع بالطلبة، فكان يأتيهم الطلاب على خوف وريبة، فكان الموطأ يقرأ في البيوت سراً، وكان بعض العلماء يخرج إلى المقبرة فيستتر فيها ويقرأ على الطلبة سراً.
لكن لم يكن للتفسير حظٌ كبيرٌ في هذه الفترة، التي كانت شديدة على أهل السنة، وذاك لما ارتكبه العبيديون في الشمال الإفريقي من الجرائم، ونلخصها فيما يلي ليُعرف شرُهم ومكرهم عبر التاريخ؛ وهذه صفحات منه ([18] ( http://www.minbarwahran.net/ar/st1_m5.html#_ftn18)):
1. لقد اضطُهد العلماء وامتحنوا في عهد عبيد الله؛ قال محمد بن خراسان: لما وصل عبيد الله إلى رقادة، طلب من القيروان ابن البردون، وابن هذيل، فأتياه وهو على السرير، وعن يمينه أبو عبد الله الشيعي، وأخوه أبو العباس عن يساره، فقال: أتشهدان أن هذا رسول الله؟ فقالا بلفظ واحد: والله لو جاءنا هذا والشمس عن يمينه والقمر عن يساره يقولان: إنه رسول الله، ما قلنا ذلك. فأمر بذبحهما ([19] ( http://www.minbarwahran.net/ar/st1_m5.html#_ftn19)).
وابن بردون هو الذي حلاه الذهبي بقوله: "الإمام الشهيد المفتي، أبو إسحاق، إبراهيم بن محمد بن البردون الضبي مولاهم الإفريقي المالكي، تلميذ أبي عثمان بن الحداد" ([20] ( http://www.minbarwahran.net/ar/st1_m5.html#_ftn20)).
2. لقد كان شعراء الدولة العبيدية يمدحون خلفاءهم إلى درجة الكفر البواح وينشرونها بين الناس، وقد ظهر ذلك في شعر ابن هانئ الأندلسي في مدحه للمعز وكان أحد شعرائهم.
3. شنوا حربًا نفسية على أهل السنة وذلك بتعليق رؤوس الأكباش والحمير على أبواب الحوانيت والدواب، وكتبوا عليها أسماء الصحابة رضي الله عنهم، (لعنهم الله أنى يؤفكون)، وأظهروا سب الصحابة رضي الله عنهم، وطعنوا فيهم وزعموا أنهم ارتدوا بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وخصصوا دعاة للنداء بذلك في الأسواق.
4. عمل العبيديون على إزالة آثار بعض من تقدمهم من الخلفاء السنيين؛ ولذلك أصدر عبيد الله أمرًا بإزالة أسماء الحكام الذين بنوا الحصون والمساجد، وجعل اسمه بديلاً منهم، واستولى هذا الرافضي الخبيث على أموال الأحباس وسلاح الحصون، وطرد العُبّاد والمرابطين بقصر زياد الأغلبي وجعله مخزنًا للسلاح.
5. حرص العبيديون على منع التجمعات خوفًا من الثورة والخروج عليهم؛ ولذلك جعلوا بوقًا يضربونه في أول الليل، فمن وجد بعد ذلك ضرب عنقه، كما أنهم كانوا يفرقون الناس الذين يجتمعون على جنازة من يموت من العلماء.
6. أتلفوا مصنفات أهل السنة، ومنعوا الناس من تداولها كما فعلوا بكتب أبي محمد بن أبي هاشم التجيبي (ت 346ه) الذي توفي وترك سبعة قناطير كتب، كلها بخط يده، فرفعت إلى سلطان بني عبيد فأخذها ومنع الناس منها كيدًا للإسلام وبغضًا فيه.
7. حرَّموا على الفقهاء الفتوى بمذهب الإمام مالك، واعتبروا ذلك جريمة يعاقب عليها بالضرب والسجن أو القتل أحيانًا، ويعقب ذلك نوع من الإرهاب النفسي، حيث يدار بالمقتول في أسواق القيروان وينادى عليه: «هذا جزاء من يذهب مذهب مالك»، ولم يبيحوا الفتوى إلا لمن كان على مذهبهم كما فعلوا بالفقيه المعروف بالهزلي «أبو عبد الله محمد بن العباس بن الوليد» المتوفى عام (329ه).
8. منعوا علماء أهل السنة من التدريس في المساجد، ونشر العلم، والاجتماع بالطلاب، فكانت كتب السنة لا تقرأ إلا في البيوت خوفًا من بني عبيد، فكان أبو محمد بن أبي زيد، وأبو محمد بن التبان وغيرهما، يأتيان إلى أبي بكر بن اللباد، شيخ السنة بالقيروان في خفية، ويجعلان الكتب في أوساطهما حتى تبتل بالعرق خوفًا من بني عبيد.
¥