وهنا أسأل الشيخ بأدب وأقول: هل يخرج الصواب عن أقوال السلف في تفسير آية قرآنية كونية أو غير كونية؟
الوقفة الرابعة:
قال الدكتور وفقه الله: (لم يشأ الله أن يفزع العقلية البدوية بما لا تحتمله من القضايا الكونية).
وهل سيتحدى الله أبا جهل والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف بما لم يسمعوا به من هذه الحقائق؟
لو كان ذلك لوجدوا خير سبيل للطعن في القرآن وتكذيبه؛ لما فيه مما لم يسمع به أحد من العالمين في وقتهم.
فالمسألة إذاً ليست رأفة بالعقلية البدوية, وإنما ليقوم التحدي على أصل عادل صحيح.
والذي يفهم من عبارة الدكتور هذه أن الله لم يشأ أن يتحدى المشركين زمن نزول القرآن بهذه القضايا الكونية؛ لأنهم لا يعرفونها. أقول: ما زال أكثر المسلمين والمشركين اليوم جاهلين بهذه القضايا الكونية, ولا يعلمها إلا القلة من المتخصصين فيها, فكيف يقع الإعجاز والتحدي في هذا الزمان بما لا يعرفه أكثر أهله؟ إن عبارة "الإعجاز" التي تذكر في هذا المقام أكبر بكثير من استخدام الدكتور لها, والواقع أن هذا النوع من الإعجاز الذي يسميه الدكتور" الإعجاز العلمي" في حقيقته إعجاز غيبي يظهر فيه مع الأيام ما كان غائباً عن الإنسان في زمن من الأزمان.
الوقفة الخامسة:
قال الدكتور: (القرآن معجز في كل زمان ومكان).
وهي عبارة جليلة محترمة, غير أني أقول لشيخي الكريم:
ما لم يكن معجزاً في ذلك الزمان لا يكون معجزاً الآن,
والذي أعجزهم في ذلك الزمان هو ما نبغوا فيه إلى الغاية, وتاهوا فيه على الأمم, وهو هذا اللسان والبيان, فنزل القرآن بالبيان المعجز, على أمة بلغت الغاية في التفنن في خطابها, فبهرها وأعجزها, وأسلمت إليه واستسلمت, ورأت هذا الإعجاز مبثوثاً في كل سورة منه.
فإن قيل: أبا بيان: هل تنفي هذه الحقائق العلمية الموجودة في القرآن؟
قلت: وهل يلزم أن نستخرجها من القرآن حتى تكون حقائق علمية؟
وهل كل حقيقة علمية ذكرت في القرآن مُعجزة؟
وهل أتجاوز فهم السلف لكلام الله لأفسر الآية تفسيراً عصرياً أستخرج منه حقيقة علمية؟
وأزيدك فائدة فأقول:
إن من يُحِس همساً, أو يسمع ركزاً, ليدرك أن من وراء هذا السؤال نفساً مهزومةً, رأت كيف أخذت الأمم بحظها من هذه العلوم, فارتقت بها وتصدرت, وأمته قابعة تدور في مكانها إن كانت تدور, فرجع يائساً من نيل تلك الحقائق كما ينبغي أن تُنال, وكما نالها أولئك الذي أخذوا بسنة الله فيها, وأخذ في انتزاعها من القرآن بحق وبدون حق, ليقول للعالم: لا جديد عندكم عَمَّا في القرآن. ولو صدق لقال: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا ما دامت في القرآن؟!
أخي الكريم, لقد أخطأنا الطريق, فحين كان الواجب أن نفهم القرآن كما فهمه أهل العلم من سلف الأمة وأتباعهم, ثم نأخذ بأسباب القوة حيثما كانت وبكل سبيل, تركنا أسباب القوة وسُنَنَها الحسية, وخالفنا فهم الأوائل لكلام الله؛ لنستخرج منه - بعد لَأيٍ شديد- حقيقةً علمية أبلاها الزمان, وصارت من سقط متاع القوم, ومُباح حديثهم.
لماذا يُصِرَُ البعض على إخراج كُلّ شيء بكُلّ سبيل من القرآن؟
هذه مسألة أخرى ذاتُ شجون, وطريقها طويل, ولست لها الآن وقد:
شكى إليَّ جملي طول السُّرى ** يا جملي ليس إلي المشتكى
صبراً جميلاً فكلانا مُبتلى
الوقفة السادسة:
يصر الدكتوركثيراً على عدم التعارض بين الآيات القرآنية, والحقائق الكونية, ويقترح ويرجوا من علماء التفسير أن يشاركوا ويحضروا مؤتمرات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.
وأقول: لاعلاقة لكلا الأمرين السابقين بموقف علماء التفسير المخالفين لهذا التجاوز في تفسير الآيات, فأهل التفسير أكثر الناس إدراكاً لتوافق الآيات القرآنية مع الحقائق الكونية, كما أنهم يعرفون أين يضعون دراسات هذه المؤتمرات؟ ومتى يأتي دورها؟ وكيف يستفيدون منها؟
ولم يغب عنهم بحمد الله فهم شيء من كلام الله حتى ينتظروا فهمه من هذه المؤتمرات.
الوقفة السابعة:
للأسف لم يُجِب الدكتور على اثني عشر إيراداً وملاحظة على هذا الموضوع ذكرها الدكتور مساعد وفقه الله, وقد تعرض لأول فقرة منها إجمالاً, ثم أراد المقدم استعراضها واحدا واحدا فأراحه الدكتور بقوله: أنا أخالف الدكتور مساعد ولا أوافقه في كل ما قال. فتركها المقدم ومضى. وكنت أتمنى من الدكتور الإجابة عليها تقديراً لتساؤلات أهل التفسير في هذا الموضوع, والتي أجاد الدكتور مساعد في عرضها.
الوقفة الثامنة:
من العبارات الجميلة التي ذكرها الدكتور النجار عبارتين:
الأولى قوله: (المقصد الأهم من الإعجاز العلمي حُسن فهم الآيات) , وأقول: ما أجمل الغاية لو عرفنا السبيل, وأي فهم لكتاب الله أحسن من فهم من نزل عليهم القرآن, وبلسانهم, ورسول الله بين أظهرهم يبين لهم, وقد عرفوا قصة الآية, وسببها, وحال من نزل عليهم القرآن؟
والعبارة الثانية: شروط التفسير العلمي العشرة التي ذكرها الدكتور وفقه الله, وهي في مجملها شروط صحيحة مطلوبة في التعامل مع الآيات, غير أنه ينقصها التدقيق, فبعضها يرجع لبعض, كما أنها تقعيد بلا تطبيق صحيح في أغلب صورها, وما فعله الدكتور جزاه الله خيراً في آية التكوير التي ذكرها في الحلقة: {فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس} خيرُ دليل على فساد التطبيق, وأكبر تجاوز في تناوله ذلك هو تجاوزه لأقوال المفسرين بكل بساطة, ليذكر حقيقة علمية عنده, لم تكن لتتحملها العقول البدوية, وقد ذكرها أحد الباحثين الغربيين المتخصصين.
وأعتذر للدكتور النجار وفقه الله إن نَدَّ لفظ, أو تجاوز معنى, فلم أرتَض نقص العرض للموضوع الذي اعترى الحلقة, ولا سبيل لبعض الاستدراك والتصحيح فيه إلا بنحو هذا المقال, على قِلَّة قارئيه, والله المستعان.
والله يعلم أني لم أقصد من سماع الحلقة الرد أو الانتقاد, ولكن رجوت أن تكون الفائدة به أكثر, وأرجوا ممَّن يقرأه من الإخوة أن يعلم أن باعثه النصح, والفائدة العلمية, وحماية هذا العلم من جور الزمان, وقلة الأعوان, والله الموفق والمعين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وآله وصحبه.
¥