[من فرائد ابن عاشور في التحرير و التنوير: الحلقة الخامسة.]
ـ[أبو زينب]ــــــــ[07 Aug 2005, 12:01 ص]ـ
يقول الحق سبحانه و تعالى في سورة الأنبياء
" و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ": 107
ركز جل المفسرين في كتبهم على معنى الرحمة و على معنى العالمين. و جاءت كتاباتهم بالمعاني التالية:
1 - أنه صلى الله عليه و سلم كان رحمة في الدين لأنه بُعث و الناس في جاهلية و ضلالة
2 - أنه رحمة في الدنيا لأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الحروب و ذلك مصداق قوله صلى الله عليه و سلم (إني لم أبعث لعانا و إنما بعثت رحمة) {رواه مسلم عن أبي هريرة}
3 - أنه كان رحمة لأتباعه من المؤمنين فقد جاء بما يسعدهم إن اتبعوه.
4 - أنه كان رحمة لغير المؤمنين بتأخير عقوبتهم بسببه و بأمنهم به من عذاب الاستئصال.
أما ابن عاشور فقد انفرد في تفسيره بما يلي:
1 - الوصف الجامع:
جاءت هذه الآية مشتملة على وصف جامع لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم ومزيتها على سائر الشرائع مزية تناسب عمومَها ودوامها، وذلك كونها رحمة للعالمين، فهذه الجملة عطف على جملة {وجعلناها وابنها آية للعالمين} [الأنبياء: 91] ختاماً لمناقب الأنبياء، وما بينهما اعتراض واستطراد.
ولهذه الجملة اتصال بآية {وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} [الأنبياء: 3].
ووزانها في وصف شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وزان آية: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان} [الأنبياء: 48] وآية: {ولقد آتينا إبراهيم رشده} [الأنبياء: 51] والآيات التي بعدهما في وصف ما أوتيه الرسل السابقون.
2 - اثنا عشر معنى خصوصيا في أربعة و عشرين حرفا:
صيغت هاته الآية بأبلغ نظم إذ اشتملت - بوجازة ألفاظها - على مدح الرسول عليه الصلاة والسلام ومدح مرسله تعالى، ومدح رسالته بأن كانت مظهر رحمة الله تعالى للناس كافة وبأنها رحمة الله تعالى بخلقه.
فهي تشتمل على أربعة وعشرين حرفاً بدون حرف العطف الذي عطفت به، ذكر فيه:
الرسول،
ومرسله،
والمرسَل إليهم،
والرسالة،
وأوصاف هؤلاء الأربعة،
مع إفادة عموم الأحوال،
واستغراق المرسل إليهم،
وخصوصية الحصر،
وتنكير {رحمة} للتعظيم، إذ لا مقتضى لإيثار التنكير في هذا المقام غير إرادة التعظيم وإلا لقيل: إلا لنرحم العالمين، أو إلا أنك الرحمة للعالمين. وليس التنكير للإفراد قطعاً لظهور أنّ المراد جنس الرحمة وتنكير الجنس هو الذي يعرض له قصد إرادة التعظيم.
فهذه اثنا عشر معنى خصوصياً، فقد فاقت أجمع كلمةٍ لبلغاء العرب، وهي:
قِفا نَبْككِ من ذِكرَى حبيبٍ ومنزل
إذ تلك الكلمة قصاراها كما قالوا: «أنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل» دون خصوصية أزيد من ذلك فجمَع ستة معان لا غير. وهي غير خصوصية إنما هي وفرة معان. وليس تنكير «حبيب ومنزل» إلا للوحدة لأنه أراد فرداً معيّناً من جنس الأحباب وفرداً معيناً من جنس المنازل، وهما حبيبه صاحب ذلك المنزل، ومنزلُه.
3 – اتحاد الرسول بالرحمة و انحصاره فيها:
... واعلم أن انتصاب {رحمة} على أنه حال من ضمير المخاطب يجعله وصفاً من أوصافه فإذا انضم إلى ذلك انحصار الموصوف في هذه الصفة صار من قصر الموصوف على الصفة. ففيه إيماء لطيف إلى أن الرسول اتحد بالرحمة وانحصر فيها، ومن المعلوم أن عنوان الرسُولية ملازم له في سائر أحواله، فصار وجوده رحمةً وسائر أكوانه رحمة. ووقوع الوصف مصدراً يفيد المبالغة في هذا الاتحاد بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله، ويدلّ لهذا المعنى ما أشار إلى شرحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " إنما أنا رحمة مهداة " وتفصيل ذلك يظهر في مظهرين: الأول تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة، والثاني إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته.
.... ولهذا خصّ الله محمداً صلى الله عليه وسلم في هذه السورة بوصف الرحمة ولم يصف به غيره من الأنبياء، وكذلك في القرآن كله، قال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة: 128] وقال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم} [آل عمران: 159] أي برحمة جبلَك عليها وفَطرك بها فكنت لهم لَيِّناً.
4 - العالمين ... حتى الحيوان:
¥