[رمضان شهر القرآن]
ـ[محمد بن إبراهيم الحمد]ــــــــ[18 Oct 2005, 10:19 م]ـ
[رمضان شهر القرآن]
إن القرآن الكريم: كلام الله، ورسالته الأخيرة للبشرية، وهو آخر الكتب السماوية، وخاتمَها، وأطولُها، وأشملها؛ فيه نبأ السابقين، وخبر اللاحقين، وفيه الحُكْم، والحِكمة، والأحكام.
والقرآن الكريم: هو المهيمن على الكتب السابقة، والحكَم عليها؛ فما شهد له بالصدق فهو المقبول، وما حكم عليه بالرد فهو مردود قد دخله التحريف والتبديل.
والقرآنُ محفوظٌ من الزيادة والنقص، والتحريف والتبديل؛ فلقد أنزله الله وتكفل بحفظه، قال -عز وجل-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
والقرآن جاء في الذروة من البلاغة والإعجاز؛ فهو معجزٌ في لفظه ومعناه، معجزٌ في إخباره عن الغيوب السابقة واللاحقة؛ معجزٌ في حِكَمِه وأحكامه وكلِّ ما جاء به.
بل هو معجز في تأثيره في القلوب؛ فما يسمعه أحد وهو مُلْقٍ سمعَه إلا ويأخذ بمجامع قلبه، ويستحوذ على نياط فؤاده؛ فتشهد كلُّ ذرة في كيان جسده: أن هذا كلام رب العالمين الذي تَنَزَّه عن شوائب اللبس وخَلُصَ من أكدار الشبهات، وتجافى عن مضاجع القلق، وبَرِىء من وَصْمَة التعقيد، وسَلِمَ من معرَّة اللغو والخطأ.
والقرآنُ الكريمُ مشتملٌ على أعدل الأحكام، وأعظمها، وأشرفها، وأشملها، فلم يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا وأحاط بها إجمالاً وتفصيلاً، يشهد بذلك كلُّ منصف ولو لم يكن مسلماً.
ومن خصائص القرآن الكريم: أن قارئه لا يَمَلُّ قراءته، وأن سامعه لا يسأمه، ولا يمجّه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديدُه يوجب له محبةً، وغيرُه من الكلام يُعادىَ إذا أعيد، ويُملُّ من كثرة الترديد.
ورحم الله الإمام الشاطبي إذ يقول:
وإنَّ كِتَابَ اللهِ أوثقُ شَافِعٍ = وأغنى غَناءًا واهباً مُتَفَضِّلا
وخيرُ جليسٍ لا يُمَلُّ حديثُهُ = وتَرْدَادُه يزدادُ فيه تَجَمُّلا
فيا أيُّهَا القَارِي بهِ مُتمسِّكاً = مُجِلاً له في كلِّ حالٍ مُبَجِّلا
هنيئاً مريئاً والداكَ عليهِما = مَلابسُ أنوارٍ مِن التَّاجِ والحُلى
هذا القرآن هو: طريق السعادة، وسبيل العزة للفرد والأمة، قال-سبحانه وتعالى-: (طه {1} مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)، وقال: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)، وقال: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ).
القرآن الكريم: نور الصدور، وجلاء الهم والغم، وفرح الفؤاد، وقرة العين.
وكتابُ ربِّك إن في نفحاتِه = مِن كلَّ خيرٍ فوقَ ما يُتَوقّعُ
نورُ الوجودِ وأنسُ كلِّ مُرَوَّعٍ = بكروبِه ضاق الفضاءُ الأوسعُ
والعاكفون عليه هم جلساءُ مَن = ْلجلاله كلُّ العوالم تخشعُ
فادفن همومَك في ظِلال بيانِهِ = تَحْلُ الحياةُ وتطمئنَّ الأضلعُ
فبكل حرفٍِ من عجائب وحيه = نبأٌ يبشر أو نذيرٌ يقرعُ
القرآن الكريم: حبل الله المتين، وصراطُه المستقيم، سمّاه الله نوراً وتبياناً، وموعظة ورحمةً، وشفاءً لما في الصدور، لا تنقضي عجائبه، ولا يَخْلَقُ عنه كثرة الردّ، لا يعوجّ فيقوَّم، ولا يزيغ فيُستعتَب، فيه القصص العجيبة، ودلائل التوحيد والنبوة، فيه المواعظ الحسنة، وفيه البراهين الجلية القاطعة، التي تسبق إلى الأفهام ببادئ الرأي، وأول النظر، ويشترك كافةُ الخلق في إدراكها؛ فهو مثل الغذاء ينتفع به كلُّ إنسان، بل كالماء الذي ينتفع به الصبي، والرضيع، والرجل القوي والضعيف.
في القرآن حثٌّ على كل خلق جميل، وفيه التنفير من كل خلق ساقط رذيل (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
هذا القرآن: هو الذي أحرزت به الأمةُ السعادةَ، وهو الذي اجتثَّ منها عروقَ الذِّلة والاستكانة، وهو الذي رباها وأدَّبها، فزكَّى منها النفوسَ، وصفَّى القرائحَ، وأذكى الفِطَنَ، وجلا المواهبَ، وأعلا الهممَ، وأرهف الحسَّ، وقوّى العزائم، واستثار العقول.
وهو الذي غرس الإيمان في الأفئدة، وملأ القلوبَ بالرحمة، وحفز الأيديَ للعملِ النافعِ، والأرجلَ للسعيِ المثمرِ، ثم ساق تلك القوى-على ما في الأرض من شرِّ وباطَلٍ وفسادٍ- فطهرها منه تطهيراً، وعمَّرها بالحق والإصلاح تعميراً.
¥