[أضواء على تفسير سورة البقرة للدكتور صبحي الصالح رحمه الله]
ـ[أبو صلاح الدين]ــــــــ[12 Oct 2005, 09:42 م]ـ
الكاتب: د. صبحي الصالح
المصدر: مجلة الفكر الإسلامي-العدد2
أضواء على تفسير سورة البقرة
تمهيد عام:
سورة البقرة هي أطول سور القرآن كلها، فتعداد آياتها في المصاحف المشهورة مئتان وست وثمانون آية، وهي مدنيّة بالإجماع، نزل معظمها في أول الهجرة النبوية، وفيها آية نزلت في حجة الوداع، قَدْ عدّها كثير من العلماء آخِرَ ما نزل من القرآن، وهي قوله تعالى: "واتقوا يوماً تُرْجَعون فيه إلى الله ثم تُوَفّى كلّ نفسٍ ما كسبَتْ، وهم لا يُظْلَمون" الآية 281.
ولقد تضمّنت هذه السورة – بسبب طولها – مقاطع كثيرة فيها قواعد كلية وفروع تفصيلية لابدّ من الإشارة إليها إجمالاً قبل الخوض في شرح مفرداتها وتفسير معانيها. وما في مستهلّها من حروف مقطّعة (الم) يُلْجِئنا فوق ذلك إلى تِبْيان الحكمة من فواتح السور ولو ظللنا عاجزين عن تأويل كُنْهها وحقيقتها.
إن أعجب ما في هذه السورة أنها – رغم طولها وإسهابها وتنوّع أغراضها – تدور حول محور أساسي يكاد يكون ثابتاً: وهو هدى القرآن تتبايَنُ إزاءه مواقفُ الناس، من متّقين مفلحين، وكَفَرةٍ خاسرين، ومنافقين مُفْسِدين. وعلى رسم هذه المواقف وتحليل سماتها، انطوى من أول السورة مقطع غير قليل.
وترغيباً للناس في اتّباع سبيل المتقين المهتدين، تتمهّل السورة في عرض نماذج من الوصايا الدينية، وصور من التكاليف الشرعية: فمن دعوة إلى التحلي بخصال العابدين، وانتظار البشارة بما وعد الله أولئك السعداء من النعيم المقيم، إلى افتراض الفرائض، وتحديد الأوامر، وإلقاء التبعات على عواتق المؤمنين.
ففي سورة البقرة نتلو آيات تحضّنا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، وآيات أخرى تحرّم علينا الخمر والميسر، وأكل أموال الناس بالباطل، وأكل الربا ومزاولة السحر، ومقاربة النساء في ظروف معينة، ونكاح المؤمنين المشركات وتزويج المشركين المؤمنات، وإثارة الفتن بتهديد الحرّيّات والإكراه في الدين، ومقاطع تتفاوت إطناباً وإيجازاًَ توضح أحكام القتال والقصاص في القتلى، والوصيّة للوالدين والأقربين، معاملة اليتامى ومخالطتهم في المعيشة، والنفقات والمستحقين لها من الناس، وقضايا الزوجية والطلاق والرضاعة والعدّة وخِطْبة المعتدّة ونفقتها ومتعة المطلّقة والإيلاء من النساء، وكتابة الدّيْن والإشهاد عليه، وأداء الرهان، ومسائل الأَيْمان والعفو عن يمين اللغو ... كل ذلك بأسلوب يجمع إلى دقة الفقه والتشريع أجملَ التوجيه وأحلاه، في قصة تُحْكَى أو واقعة تُرْوَى، أو موعظة مؤثّرة تمسّ شغاف القلوب.
ولكي يتمّ التناسق بين البدء والختام، انتهت السورة بمثل ما استُهِلّت به من عرض تحليلي لخصال المؤمنين المتقين الذين وُصفوا في المطلع بأنهم يؤمنون بما أنزل إلى محمد r وما أنزل من قبله، وبالآخرة هم يوقنون، ثم وُصفوا في الخاتمة بأنهم يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولا يفرّقون بين أحد من رسله، ويقولون: "سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا، وإليك المصير". ويبتهلون إلى الله في دعاء ضارع مستغيث: أن يخفّف عنها التكاليف والآصار، ويكتب لها النصر على القوم الكافرين. وهكذا دارت السورة بدءاً ووسطاً وختاماً حول موضوع واحد منسجم متناغم، يصوّر بوجه عام مواقفَ الناس إزاء هداية القرآن، ويعتني بوجه خاص بتصوير أدق اللمحات للمتقين الذين اهتدوا بوحي القرآن، وآمنوا بالله أخلص الإيمان، وتحملوا تكاليف الدين في خضوع وإذعان.
تلك لمحة عابرة عن محتوى السورة، آثرنا بها أن نلقي أضواء تعيننا على تفسيرها، وتعين القارئ على استيعاب كلياتها العامة، وتَرَقّب بعض جزئياتها التفصيلية، التي ستتعاقب في مواضعها المناسبة شرحاً وتحليلاً وبياناً.
فواتح السور:
على أنّ في مستهلّ السورة حروفاً ثلاثة مقطعة ((ألفْ – لامْ – ميمْ))، فما هي حقيقتها. وإن تكُ سراً استأثر الله بعلمه فما حكمة تنزيلها وعدّها هي ونظائرها في بعض السور آيات تتلى وترتّلُ ترتيلاً؟
¥