تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[اليقين الديني واليقين التجريبي]

ـ[أبو صلاح الدين]ــــــــ[12 Oct 2005, 03:51 م]ـ

الموضوع لأستاذنا الجليل وشيخنا الكبير العلامة: أد. محمد بلتاجي رحمه الله

[اليقين الديني واليقين التجريبي]

1 ـ هناك فارق كبير بين العلوم ذات الطابع التجريبي ـ التي يقوم اليقين فيها على التجربة المادية ـ والعلوم ذات الطابع الإنساني، التي يُعرض فيها لقضايا الدين والوحي، ذلك أن قضايا العلوم التجربية تمثل ـ عند الوصول إليها بصورة يقينية حقائق خارجية، لها وجود يمكن الرجوع إليه خارج الذات التي توصلت إليها، وخارج كل ذوات البشر، بحيث يكون من اليقيني أن تتكرر النتيجة التجريبية كلما توفرت شروطها، وظروفها، بصرف النظر عن المكونات الذاتية والوجدانية لمن يقوم بها ومن يشاهدها. فإذا كانت إضافة عنصر ما إلى عنصر آخر ـ في ظروف خاصة ـ تنتج تركيباً معيناً، فإنه كلما أضيف العنصرات ـ في نفس الظروف المطلوبة ـ فإن الإضافة لابدّ أن تنتهي إلى نفس النتيجة اليقينية التي سبق التوصل إليها، بحيث لا تتخلف النتيجة أبداً إلا إذا كان التخلف راجعاً إلى تغير شيء من شروط التجربة وظروفها. ومهما تكن عقيدة القائم بالتجربة، وجنسه، وسنّه، وتكوينه الوجداني والنفسي، فلابدّ أن تنتهي تجربته بنفس نتيجتها ما دام قد التزم بكافة شروطها وتيسرت له موادها.

وهنا يمكن الفصل حقاً بين (ذاتية القائم بالتجربة ومكوناته الشخصية الخاصة) وبين (موضوع هذه التجربة)، وذلك لأن التجربة، مرجعاً يقينياً خارجاً عن ذوات البشر جميعاً، غير متأثر بعقائدهم وصفاتهم الخاصة. وهذا المرجع اليقيني الخارجي الذي لا يتخلف هو (الطبيعة والوجود المادي). ومن هنا نستطيع تكرار التجربة دون حدود واثقين من أنها ـ عند توفر كل شروطها ـ لابدّ أن تنتهي إلى نفس النتيجة، أياً كان القائم بها.

أما المعارف ذات الطابع الإنساني المتداخل مع ذات الإنسان ووجوده الباطني والنفسي بصورة ما ـ فإن اليقين فيها مختلف عن اليقين الذي عرضنا له في التجريبيات الموضوعية، ذلك أن الأمر في الإنسانيات ـ وإن اعتمد على شواهد الطبيعة والوجود المادي الخارج عن الذات ـ فإن مرجع اليقين، والتوقف، والرفض فيه إلى الذات الإنسانية التي تُعرض عليها هذه الشواهد الخارجية، فتمزجها بمكوناتها الخاصة، تنظر إليها من خلال تجاربها الذاتية وخصوصياتها النفسية والوجدانية، وتنتهي فيها إلى نتيجة ما لا تستطيع نقلها إلى الآخرين، كما ينقل العالم التجريبي يقينه، ونتيجته في التجربة المادية إلى الآخرين، بوصفها وصفاً مادياً دقيقاً، وتكرارها أمامهم إلى أن يقوموا بها هم أنفسهم ليصلوا فيها إلى نفس يقينه، ذلك أن المعرفة البشرية التي تدخل خصوصيات الذات في تكوينها ترجع إلى أمور واعتبارات يستحيل نقلها والبرهنة عليها خارج الذات بصورة كاملة قاطعة، كما يتيسر ذلك في التجريبيات الموضوعية.

فللإيمان بصدق الدين مثلاً شواهد موضوعية خارج الذات، لكن وجهة النظر الخاصة إليها ويقين الإنسان فيها ترجع في الحقيقة إلى مكونات الذات الخاصة، بحيث تكون هذه الشواهد ملائمة بالنسبة لشخص ما لأن تنتهي به إلى يقين ثابت في أن الدين والوحي حق، وأن مقولاتهما من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر ـ حق.

لكن هذه الشواهد المادية نفسها حينما تعرض على شخص آخر يختلف عن السابق في مكوناته الذاتية وتجاربه وظروفه ـ فإن هذه الشواهد يمكن أن تنتهي به إلى نقيض النتيجة السابقة من رفض دعوى صدق الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر وتفسير الوجود تفسيراً مادياً مطلقاً، بما في ذلك ظواهر (النبوة) و (الوحي) و (نشأة التدين) وكل القضايا العقدية والتاريخية المتصلة بذلك.

وحينئذ، هل يستطيع أي الرجلين أن ينقل يقينه الباطن إلى الآخر كما هو عنده تماماً؟ وهل يستطيع أن يبرهن ـ ببرهان خارج عن ذاتهما معاً، أي ذوات البشر جميعاً ـ على صحة معتقده بصورة تجريبية يقينية لا يملك الآخر معها إلا التسليم؟

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير