ب. وإن كان اعتبار العاقل كأنه غير موجود ليس لأنه غير مؤثر بل لأن مقصود الخطاب إبراز قلة حجمه بالنسبة لغيره من المخلوقات غير العاقلة، فلا تغليب حينئذٍ للعاقل، بل الخطاب لغير العقلاء، كقوله تعالى: {ولله ما في السموات وما في الأرض} [آل عمران/109] فاستعملت {ما} وهي لغير العاقل لأن المقصود أن مخلوقات الله غير العاقلة الخاضعة لله تعالى كثيرة جداً بالنسبة إلى العقلاء.
وكذلك قوله تعالى: {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض} [الجمعة/1] أي أن الذين يسبحون الله وينزهونه ويخضعون له Y من مخلوقات الله غير العاقلة في ملكوته هم كثرة كاثرة بالنسبة للعقلاء والمكلفين تهويناً لشأن غير المسبحين الله منهم.
ج. كذلك إذا كان العاقل مجهولاً في صفته وماهيته عند المخاطِب أو المخاطَب أو أراد المخاطِب أن يبحثه ابتداء كما لو كان مجهولا، فإن أسلوب المخاطب غير العاقل يستعمل معه، فالعرب تقول عند رؤيتها شيئا يتحرك نحوها من بعيد مجهولاً في صفته وماهيته (ما هذا) وهكذا عند سؤالهم عن مجهول في الصفة والماهية:
• قال تعالى: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن} [الفرقان/60].
• قال تعالى: {قال فرعون وما رب العالمين} [الشعراء].
• قال تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} [البقرة/228].
• قال تعالى: {إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي} [البقرة/133].
فأراد يعقوب - عليه السلام - أن يبحث موضوع الخالق المعبود ابتداءً كما لو كان غير معلوم للمخاطب ليبين أن الإنسان بفطرته وعقله يستطيع التعرف على خالقه والإيمان به دون أن ينقل ذلك نقلاً عن غيره.
د. فإذا سلط الخطاب على العاقل من حيث الحلّ والحرمة كشيء من الأشياء فإن خطاب غير العاقل يستعمل مثل:
• قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء/3].
• قال تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء/24].
• قال تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} [النساء/22].
باستعمال {ما} التي هي لغير العاقل.
3. تغليب صفة العاقل:
فإذا وصف غير العاقل بصفة العقلاء فإن خطاب العاقل هو المستعمل بسبب تغليب الصفة، قال تعالى: {إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} [يوسف]. فقد استعملت {رأيتهم} في الآية الكريمة وهي للعقلاء بدلاً من (رأيتها) وهي لغير العقلاء، وذلك بسبب وصف القمر والشمس والكواكب بصفة ظاهرها في العقلاء {ساجدين} ومن باب تغليب صفة العقلاء استعمل خطاب العقلاء {رأيتهم} بدلاً من (رأيتها) لغير العقلاء.
ومثال آخر:
• قال تعالى: {قال بل فعله كبيرهم هذا فاسئلوهم إن كانوا ينطقون} [الأنبياء] فالسؤال والنطق صفة للعاقل، فغلّب خطاب العاقل بدل خطاب الأصنام غير العاقلة فجاء في الآية الكريمة {كبيرهم} للعاقل وليس (كبيرها) لغير العاقل، وكذلك {فسئلوهم} بدل (فاسألوها).
ملاحظة:
كما استعملت العرب التغليب في صيغ العموم - كما بيناه - فقد استعملته كذلك في ألفاظ الخصوص والذي سمي بتغليب المثنى.
فقد استعملوا تثنية لفظ مفرد ليدل على هذا المفرد ومفرد آخر ليس من جنسه ولكن بينهما علاقة فقالوا (القمران) وأرادوا الشمس والقمر، و (الأبوان) وأرادوا الأب والأم.
كذلك استعملوا تثنية صفة لتشمل مشتركين بها فقالوا (الأخشبان) لجبلي (أبي قيس وقعيقعان) في مكة لصلابتهما، وقالوا (الأسودان) للتمر والماء، وكذلك للعقرب والحية.
المصدر: http://www.al-waie.org/home/issue/182/htm/182w08.htm