والمعنى الثاني للآية راجع ـ عند التحقيق ـ إلى المعنى الأول؛ فإننا إذا قلنا: إن عيسى (كلمة الله) بمعنى أنه نتيجة (الكلمة) ومخلوق بـ (الكلمة) فهذا يدل على (الكلمة) أساسًا، وهو فعل الله، ويدل على عيسى عليه السلام، وهو الذي خُلق بـ (الكلمة).
فحاصل هذا الجزء من الآية أن (كلمة الله) تعالى ألقاها الله إلى مريم، وكانت الكلمة هي أمر التكوين، أي قوله: " كن " فكان عيسى عليه السلام، ومن هنا صح إطلاق الكلمة على عيسى من باب إطلاق المصدر على المفعول، وكما يسمى المعلوم علمًا، والمقدور قدرة، والمأمور أمرًا، فكذلك يسمى المخلوق بالكلمة كلمة.
هذا جواب ما يتعلق بالجزء الأول من الآية، أما الجزء الثاني، وهو قوله تعالى: " وَرُوحٌ مِنْهُ " فليس فيه أيضّا دلالة على ألوهية المسيح أو بنوته، وبيان ذلك فيما يلي:
أولاً: إن قول الله سبحانه: " وَرُوحٌ مِنْهُ " ليس فيه ما يدل على أن عيسى جزء من الله تعالى، أو أن جزءًا من الله تعالى قد حلَّ في عيسى؛ وغاية ما في الأمر هنا أننا أمام احتمالين لا ثالث لهما: فإما أن نقول: إن هذه (الروح) مخلوقة، وإما أن نقول: إنها غير مخلوقة؛ فإذا كانت الروح مخلوقة، فإما أن يكون خلقها الله في ذاته ثم انفصلت عنه، ولهذا قال عنها: " منه " أو خلقها الله في الخارج؛ فإذا كانت هذه الروح غير مخلوقة، فكيف يصح عقلاً أن تنفصل عن الله تعالى لتتجسد في شخص بشري؟ وهل هذا إلا طعن في الربوبية نفسها، لتجويز التجزء والتبعض على الخالق جل وعلا؛ وإذا كانت الروح مخلوقة، وخلقها الله في ذاته ثم انفصلت عنه، فهذا معناه تجويز إحداث الحوادث المخلوقة المربوبة في ذات الإله سبحانه، وهذا عين الإلحاد والزندقة، أما إذا كانت الروح مخلوقة وخلقها الله في الخارج، فهذا يدل على أن الله تعالى خلق الروح، ونفخها في مريم، ليكون بعد ذلك تمام خلق عيسى عليه السلام ومولده، وهذا هو عين الصواب، أما ما سوى ذلك فهو مجرد ترهات تأباها الفِطَر السليمة، فضلاً عن العقول المستقيمة.
ثانيًا: ما دمتم تقرِّون أنه ليس ثمة أحد يحمل صفات الألوهية أو البنوة لله تعالى إلا المسيح عليه السلام، وتستدلون على ذلك بقوله تعالى: " وَرُوحٌ مِنْهُ " فحينئذ يلزمكم أن تقولوا: إن آدم أحق بالبنوة من عيسى ـ عليهما السلام ـ، حيث قال الله في آدم عليه السلام: " سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي" [الحجر:29] ولا شك أن القول بهذا حجة عليكم لا لكم؛ فإذا كان قوله سبحانه: " مِنْ رُوحِي " في حق آدم معناه الروح المخلوقة، وأن هذه الروح ليست صفة لله عز وجل، فهي كذلك في حق عيسى، إذ اللفظ واحد، بل إن الإعجاز في خلق آدم بلا أب ولا أم أعظم من الإعجاز في خلق عيسى بأم بلا أب، وحسب قولكم يكون آدم حينئذ أحق بالبنوة والألوهية من عيسى، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيراً.
ثالثاً: لو سلمنا بأن الروح في الآية هي جزء من الإله، فهذا يقتضي أن يكون في الإله أقنومان - حسب اعتقاد النصارى - أقنوم الكلمة، وأقنوم الروح، وفي هذا تناقض في موقف النصارى، إذ إنهم لا يقولون إلا بأقنوم (الكلمة) ولا يقولون بأقنوم (الروح).
رابعاً: لو كان معنى " مِنْهُ " أي: جزء من الله تعالى، لكانت السماوات والأرض وكل مخلوق من مخلوقات الله جزءاً من الله سبحانه وتعالى؛ ألم يقل الله تعالى: " وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ " [الجاثية:13] وقال تعالى: " وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ " (النحل:53)؟
إن معنى " مِنْهُ " وفق السياق القرآني، أي: منه إيجادًا وخلقًا، فـ " من" في الآية لابتداء الغاية، وليس المعنى أن تلك الروح جزء من الله تعالى عما يشركون علواً كبيراً ".
وللتتميم أقول لك
يعرف كتابك المقدس (الذي تؤمن أنت به) إضافة الروح إلى الرب إضافة تشريف، انظر مثلاً النصين التاليين: " يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء، إذا جعل الرب روحه عليهم" [سفر العدد 11/ 29]. " يقول الله: ويكون في الأيام الأخيرة إني أسكب من روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤى ويحلم شيوخكم أحلاماً " [سفر الأعمال 2/ 17].
==========
ثم دعاني في النهاية لدخول النصراينة .. بكلام شاعري يدندن حول الراحة والسعادة في الدنيا والملكوت (بزعمه).
وهذا ليس غريباً في رسائل كهذه ولكن الغريب فيها استشهاده (دون أمانة علمية) بتوقيعٍ للطبيب الحبيب الأخ الفاضل د. هشام عزمي في منتدى التوحيد
وهو: " لا ترد على أحد جواباً حتى تفهم كلامه، فإن ذلك يصرفك عن جواب كلامه إلى غيره، ويؤكد الجهل عليك. ولكن افهم عنه، فإذا فهمته فأجبه. ولا تعجل بالجواب قبل الاستفهام، ولا تستح أن تستفهم إذا لم تفهم، فإن الجواب قبل الفهم حُمْق ". [جامع بيان العلم لابن عبد البر1/ 148].
وسبحان الله!
¥