لعلّ من المفيد – ونحن نواجه أول استهلال بالحروف المقطّعة حسب ترتيب المصاحف – أن نتكلم على هذه الحروف بصورة عامة، تمهيداً لاستخلاص حكمة تستسيغها عقولنا في افتتاح سورٍ من كتاب الله بحروف نماثلها في التقطيع.
إن صيغ هذه الحروف مختلفة، فمنها البسيطة المؤلفة من حرف واحد، مثل: (ص) و (ق)، ومنها المؤلفة من حرفين، مثل: ((حم)) و (الر) و ((طسم))، ومنها المؤلفة من أربعة أحرف، وهي في سورتين إحداهما الأعراف التي في أولها ((المص)) والأخرى سورة الرعد التي في مستهلها ((المر)) وليس في القرآن سورة تفتتح بخمسة حروف مقطّعة إلا سورة مريم التي في أولها ((كهيعص)).
ولقد مضى السلف الصالح يعتقدون بأنّ هذه الفواتحُ نظِمت في القرآن على هذا النمط منذ الأزل لتعجز البشر عن الإِتيان بمثل هذا الكتاب المجيد لو كان بعضهم لبعض ظهيراً. وآثروا – رغم خوضهم في حكمة ورودها – أن يحيطوها بِجوّ من التورع عن تفسيرها، والتخوّف من إبداء رأي صريح فيها، فهي من المتشابه الذي لا يعلم تأويلَه إلا الله، وهي سرّ هذا القرآن.
والاعتقاد بأزلية هذه الحروف قد أحاطها بالسرّية، وسرّيّتها قد أحاطتها بالتفسيرات الباطنية، وتفسيراتها الباطنية خلعت عليها ثوباً من الغموض لا داعي إليه، ولا معوّل عليه.
وأدخَلُ تلك الآراء معنى الغموض قولُ مَنْ عدّ هذه الحروف على حساب ((الحُمّل)) ليستنبط منها مدة بقاء هذه الأمة، أو التنبيه على كرامة شخص أو شيعة معينة: زعم بعضهم مثلاً أن عدد هذه الحروف – مع حذف المكرّر – للإشارة إلى بقاء هذه الأمة، وزعم آخرون أن بعض الأئمة استخرج من قوله تعالى (الم. غُلبت الروم) أنّ بيت المقدس يفتحه المسلمون في سنة ثلاث وثمانين وخمس مئة، وأن الأمر وقع كما قال!
وهذا الضرب من الاستخراج الحسابي يعرف باسم (عدّ أبي جاد)، وقد شدّد العلماء في إنكاره والزجر عنه، وأكدوا أنه من جملة السحر، وأنه لا أصل له في الشريعة، وللمتصوفة في هذا المجال آراء أبعد شطحاً، وأغرب لفظاً، وأغمض معنى، تستمدّ سرّيّتها من مصطلحاتهم وأسرارهم، وتنبئ عن مدى توغّلهم في الشطحات الغامضة البعيدة.
ورأى بعضهم أنّ هذه الفواتح حروف مقطّعة كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى، أو يكتفى به عن كلمة تؤلف مع سواها جُملاً يتصل معناها بما بعدها أو يشير إلى الغرض من السورة المفتتحة بها، كقولهم في (ألر): أنا الله أرى، وفي (طسم): طور سيناء وموسى، لأن السورتين اللتين تفتتحان بهذه الحروف تقصّان خبر صاحب التوراة عليه السلام في طور سيناء.
ولا يخفى على أحد ما في هذه الآراء كلها من التخرصات والظنون: فقد قيل في كل مما ذكرنا أقوال مختلفة يذهب فيها الباحثون مذاهب شتى. وأمثال هذه التأويلات لا تتناهى ولا تقف عند حدّ، وما هي إلا آراء شخصية مردّها هوى كل مفسّر وميله.
وآثر قوم أن يقولوا: إن الفواتح برمّتها، وعلى اختلاف صيغها، اسم الله الأعظم، عُبّر عنه تعبيرات مختلفة تباين ما عهدناه في تأليف كلامنا.
وشبيه بهذا رأي من قال: إن أوائل السور قَسَم أقسم الله فيه بنفسه، لأن كل فاتحة منها اسم من أسماء الله، ولا يبعد عن هذا التأويل اعتبار هذه الحروف أسماءً علَمية للقرآن بوجه عام، أو لبعض سور القرآن المفتتحة بها بوجه خاص.
ما الذي نختاره إذن لتفسير هذه الفواتح أو لتبيان الحكمة من إيرادها في بعض السور على الأقل؟
يخيّل إلينا – ونسأل الله ألا نكون مخطئين – أن رأي الإمام السيد رشيد رضا في هذه الفواتح هو أقربها إلى الصواب. ونرى لزاماً علينا أن ننقل عبارته بنصها من تفسير المنار: ((من حسن البيان وبلاغة التعبير، التي غايتها إفهام المراد مع الإقناع والتأثير، أن ينبّه المتكلمُ المخاطبَ إلى مهمّات كلامه والمقاصد الأولى بها، ويحرص على أن يحيط علمه بما يريده هو منها، ويجتهد في إنزالها من نفسه في أفضل منازلها. ومن ذلك التنبيه لها قبل البدء بها لكيلا يفوته شيء منها. وقد جعلت العرب منه هاء التنبيه وأداة الاستفتاح، فأيّ غرابة في أن يزيد عليها القرآن الذي بلغ حد الإعجاز في البلاغة وحسن البيان، ويجب أن يكون الإمام المقتدى، كما أنه هو الإمام في الإصلاح والهدى؟! ومنه ما يقع في أثناء الخطاب من رفع الصوت وتكييفه ما تقتضيه الحال من صيحة التخويف والزجر، أو غُنّة الاسترحام والعطف، أو رنّة النعي وإثارة الحزن، أو نغمة التشويق والشجو، أو هيعة الاستصراخ عند الفزع، أو صخب التهويش وقت الجدل، ومنه الاستعانة بالإشارات وتصوير المعاني بالحركات، ومنه كتابة بعض الكلمات أو الجمل بحروف كبيرة أو وضع خط فوقها أو تحتها ... )) إلى آخر ما ذكره رحمه الله.
وإن إنطباق هذه الحكمة على الواقع النفسي لمن كان القرآن موجهاً إليهم حين نزول الوحي، لا يزيدنا إلا استمساكاً بهذا الرأي. ولأمر ما افتتحت جميع السور التي في أولها حروف مقطّعة بذكر الكتاب، وهذا ينطبق حتى على سور: مريم، والعنكبوت، والروم، ون، لأنها – وإن لم تفتتح بذكر الكتاب – قد اشتملت على معان تتعلق بإثبات الوحي والنبوة.
ومن المعلوم أن هذه السور كلها مكية إلا البقرة التي نفسرها وآل عمران التي تليها. فأما المكية فلدعوة المشركين إلى إثبات النبوة والوحي، وأما الزَهّرَاوَان (أي البقرة وآل عمران) فلمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وتحريك دواعي النظر عندهم للإيمان بالدين الحنيف. ويزداد هذا الرأي وضوحاً إذا سلّمنا بأن الزَهْرَاوَيْن كانتا من أوائل السور نزولاً في المدينة كما هو المشهور، وبنزولهما مفتتحتَيْن بهذه الحروف المقطّعة تمّت الحكمة الإلهية من تنبيه اليهود إلى الدعوة الجديدة وإثارة اهتمامهم بها، فلم يعد في استمرار الإفتتاح بتلك الحروف بعد الزهرواوَيْن حكمة ظاهرة باهرة، ولذلك نزل الوحي بعدهما خالياً من تلك الفواتح.
فإذا استُهلّت سورة البقرة بهذه الحروف المقطّعة (الم) فالحكمة – والله أعلم وأحكم – إثارةُ أهل المدينة، ولا سيما اليهود وبعض العرب الذين لمَّا يعتنقوا الإسلام، إلى الاهتمام بما يوحيه الله إلى نبيّه في القرآن "ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين".