وإذا كان الحكماء من البشر يملكون ناصية البيان أعلاه، وأصفاه، وأحلاه، وأتقنه، وأرقاه، فما أبان أحد كبيان النبي- عليه السلام -، فالبيان النبوي يقف على قمة البيان البشري , ولم لا وهو قبس من بيان القرآن الكريم، بل هو الوجه الآخر لهذا البيان.
وللإشارة في بيان المعصوم صلي الله عليه وسلم مقام رفيع لا يقل عن مقام اللفظ ولقد حرص الرواة جميعاً حين سمعوا رسول الله عليه السلام يقول: " بلغوا عني " حرصوا علي نقل هذا البيان كاملاً غير منقوص، بما فيه من لفظ وخط، وإشارة، وعقد وحال،لأنهم يعلمون أن هذه الوسائل ليست حشوا، أو كمّا مهملا، بل لها دور في بناء المعني , وتكوين الدلالات , وعسى أن يكون خلف الإشارة حكم , أو تكليف , أو وصية , أو نحو ذلك من تعاليم الدين , فيغيب عن الناس فيتحملوا وزره؛ لأجل ذلك نقلوا إلينا كل شيء.
تسمعهم يقولون: قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم " كذا وأشار بالسبابة والوسطى , أو قال كذا وجمع بين أصابعه , أو شبك بين أصابعه.
وتراهم يقولون: خط رسول الله خطوطاً في الأرض ... ثم قال كذا ...
وهذا كله دليل قاطع , وبرهان ساطع على منزلة هذه الوسائل البيانية في حمل المراد إلى
المتلقي.
بل إنهم أطلقوا على الإشارة لفظ (القول): تسمعهم يقولون: قال بأصبعه كذا ....
والأوراق القادمة تكشف بعضاً من علاقة البيان بالإشارة , وكيف تحمل حركة الجسد تشبيهاً أو توكيداً , أو غير ذلك من ألوان البلاغة , وكأن الإشارة فيها من علم المعاني والبيان والبديع ..... وهذه نماذج تبين كل نوع.
التوكيد بالإشارة
لا شك أن توكيد المسند , أو المسند إليه إنما هو تقرير لكل منهما , وتحقيق لمفهومهما؛ رغبة في [جعله مستقراً محققاً ثابتاً بحيث لا يظن به غيره] (61) والإشارة تقوم بهذا الدور خير قيام.
ولقد جاءت أحاديث كثيرة ترى فيها الإشارة مؤكدة للفظ , ومدعمة له , وكأن وصول المعنى إلى القلب عن طريق السمع لا يكفي , فأريد استصحاب طريق إضافي , فإذا وجد القلب أن المعنى قد وصله من طريقين مختلفين , وكل منهما يؤكد الآخر، فتح للمعنى الباب ليستقر فيه.
ولا شك أن العلماء كانوا يستعينون علي المعني الواحد بعدة طرق لفظية مثل التوكيد اللفظي والمعنوي، وغير ذلك - لأنهم كانوا يرون في المعني فخامة تحتاج إلي هذا الحشد.
فما المانع أن تؤازر الإشارة اللفظ في المعاني الشريفة، والمقامات العالية التي تحتاج إلي ألوان أخرى من المؤكدات سوي المؤكدات اللفظية، حتى تستقر النفوس، ويزول ما فيها من ريب.
ومن هذا الباب ما جاء في فتح خيبر من حديث سلمة بن الأكوع.
أنه قال: لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالا ً شديداً مع رسول الله صلي الله عليه وسلم فارتد عليه سيفه فقتله، فقال أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك، وشكّوا فيه: رجل مات في سلاحه، وشكوا في بعض أمره.
قال سلمة: فقفل رسول الله صلي الله عليه وسلم من خيبر، فقلت: يا رسول الله ائذن لي أن أرجز لك، فأذن له رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال عمر بن الخطاب أعلم ما تقول، قال، فقلت:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم " صدقت "
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا
قال: قلما قضيت رَجَزي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قال هذا "؟
قلت: قاله أخي , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يرحمه الله "
فقلت: يارسول الله! إن ناساً ليهابون الصلاة عليه , يقولون رجل مات بسلاحه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مات جاهداً مجاهداً " , وفي رواية " كذبوا , مات جاهداً مجاهداً فله أجره مرتين , وأشار بأصبعيه " (62)
فقوله: مرتين , ثم يشير بإصبعيه إنما هي توكيد لفظي لأن المقام في حاجة إلى ذلك , وانظر إلى ما أصاب سيدنا سلمة بن الأكوع من غم حين رأى إعراض الصحابة عن الصلاة على
أخيه , حتى ارتاب في الأمر , ودخله ما دخله من الشك في عاقبة أخيه , ومن هنا كان من الأولى إزالة هذا الشك من عنده , ومن عند جميع الصحابة , فأكد النبي صلى الله عليه وسلم كلامه بالإشارة , لتكون الإشارة توكيداً لا يبقى معه لبس , ولا غموض في فوز أخي سلمة بالجنة , والشهادة في سبيل الله تعالى.
¥