تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

البيان: بيان، فنزل تقريره منزلة التصريح.

وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا: فذلك من القصر بأقوى أساليبه، فأفاد العموم بتسلط النفي على النكرة: "رسولا"، وهو عموم مخصص لعموم قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)، فلا عذاب إلا بعد البلاغ، فمن لم يصله البلاغ على وجه تقوم به الحجة الرسالية عليه فهو من أهل الفترة، ولذلك لم يعذر أهل الكتاب في زماننا، إذ قد بلغتهم الحجة الرسالية ببلوغ خبر النبي الخاتم، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد ظهر أمره، ورفع ذكره على نحو يحمل كل إنسان، لا سيما الكتابي الذي يؤمن إجمالا بجنس النبوات أن يفتش في حال هذا النبي، فينظر في مسلكه الشخصي، وينظر في مسلكه العام، فقول مدعي النبوة يدل على صدقه أو كذبه جزما، فمن المحال أن يكون كاذبا وينطلي أمره على كل البشر، فلا يفطن أحد من العقلاء إلى كذبه وتناقضه، فذلك من رحمة الرب، جل وعلا، بعباده أن كشف ستر الكاذب، فمآله إلى افتضاح، وإن ظهر أمره ابتداء فتنة وابتلاء، وأدلة النبوة من الكثرة بمكان فقد بلغت حد التواتر لعظم حاجة البشر إلى إثباتها والاستدلال على صحتها، والناظر في شخص النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأوصافه الخُلُقية والخَلْقية يدرك يقينا أنه قد طبع على خلال الخير، فلا يتكلف خلال الصدق والأمانة بل هي جبله فيه فهو: "الصادق الأمين" قبل مبعثه فلم يستجز الكذب على البشر فكيف استجاز الكذب على رب البشر جل وعلا، وهو من أكمل الناس عقولا، فلم يكن الوحي كما يزعم أعداؤه وحيا شيطانيا أو صرعا تغيب به قوى العقل فيهذي الإنسان بما لا يعقل، فإن تلك الأحوال الناقصة تباين حال الوحي الكاملة يقينا، فمن يوحي إليه الشيطان من السحرة والكهان، ومن تصرعه الجان، لا يمكن أن ينطق بوحي معجز المبنى والمعنى، قد بلغ الغاية في النظم اللفظي فلا يقدر أصحاب اللسان القرشي، وهم أفصح العرب على معارضته، فما بال الشيطان قد أوحى له وحده بهذا الكتاب المعجز، وأوحى إلى غيره من السحرة والكهان بطلاسم يهذي بها الساحر، أو خطفات يخطفها الشيطان فيلقيها إلى الكاهن فيكذب معها مائة كذبة، فذلك لا ينهض إلى معارضة الكتاب العزيز بداهة: فشتان الوحي الرحماني، والوحي الشيطاني، فالأول نزل به الروح الأمين على قلوب الرسل والنبيين، فـ: (مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)، فهم عن سماع كلمات الوحي الشرعية فحوى الرسالات السماوية معزولون، فغايتهم أن يسمعوا كلمات متفرقات من الكلمات التكوينيات لما هو آت فيلقونها إلى أوليائهم من شياطين الإنس فيلبسون بها على من يأتيهم من الجهلة والسفلة، فلا يطرق أبوابهم إلا جاهل أو رقيق الديانة وإن كان صاحب رياسة كما هو حال كثير من أصحاب الوجاهات والرياسات في زماننا، فلكل منجمه الخاص كما أثر عن كثير من الزعماء، فلا يصدر إلا عن أمره، وذلك أثر ظاهر لغيبات النبوات، فإذا خلت القلوب من تعظيمها وتصديق أخبارها وامتثال أحكامها حل محلها لزوما: ما يضادها من الطلاسم والتعويذات! فالنفس خلقت لتعمل لا لتترك، فهي حساسة متحركة لا بد لها من محبوب تريده فهو المألوه المعبود.

قال ابن القيم رحمه الله:

"والنفس متحركة بطبعها لا بد لها من مراد محبوب هو مألوهها ومعبودها فإن لم يكن الله وحده هو معبودها ومرادها وإلا كان غيره لها معبودا ومرادا ولا بد فإن حركتها ومحبتها من لوازم ذاتها فإن لم تحب ربها وفاطرها وتعبده أحبت غيره وعبدته وإن لم تتعلق إرادتها بما ينفعها في معادها تعلقت بما يضرها فيه ولا بد فلا تعطيل في طبيعتها وهكذا خلقت". اهـ

"شفاء العليل"، ص280.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير