تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هو حي في الدنيا وبه أمراض عظيمة تحول بينه وبين التنعم بما يتنعم به الأصحاء فهو يختار الموت ويتمناه ولا يحصل له فلا هو مع الأحياء ولا مع الأموات". اهـ

"شفاء العليل"، ص274.

فالشقاء في الدار الآخرة فرع عن الشقاء في الدار الأولى، فحياة الأنعام في دار الابتلاء ذريعة إلى حياة الشقاء في دار الجزاء.

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى: فذلك من التوكيد بـ: "قد" التي دخلت على الفعل تحقيقا، والفلاح، مادة جامعة لأجناس الفوز والنجاة والبقاء في النعيم والخير، فتلك معان أشار إليها صاحب "اللسان" رحمه الله، في صدر كلامه في مادة: "فلح". فذلك من التقديم بالجزاء تشويقا للمخاطب، فيتشوف إلى ذرائع تلك المعاني الجليلات، فيتولد في ذهن كل سامع: ومن ذلك الفالح الذي قد جمعت له أجناس الخير في الأولى والآخرة، فتلك منزلة شريفة تطمح إليها كل النفوس الكبيرة، فهو: الذي يتزكى، فجاء الفعل مزيدا بالتضعيف مئنة من زيادة المعنى، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فصيغة تفعل تدل على التكلف في التلبس بالمعنى، فتزكى آكد في تقرير معنى التزكية من: "زكى فـ: "زكى" يحتمل حصول الزكاة بلا مباشرة أسبابها، بخلاف: "تزكى" فإنها تدل على تكلف مباشرة أسبابها، وحذف متعلق الفعل مئنة من العموم، فأسباب التزكية الشرعية عديدة، فمن فسرها بسبب بعينه، فذلك من قبيل، ما تقدم مرارا، من تفسير العام بذكر بعض أفراده، فقد حملها بعض أهل العلم على زكاة بعينها هي: زكاة الفطر، فالمشروع إخراجها قبل الصلاة، فصدر الكلام بها، ثم تلاها الذكر والصلاة، وأجاب بعض أهل العلم بأن السورة المكية، ولم يكن ثم صيام أو زكاة فطر في مكة، بل ذلك مما شرع في المدينة، والقول بتقدم النزول على سببه لا يخلو من نوع تكلف، ومع ذلك لا إشكال في تفسير الزكاة والصلاة بذلك من باب ما تقدم من: تفسير العام بذكر فرد من أفراده، فمادة الزكاة كما ذكر أهل العلم: مشتركة بين الطهارة والنماء والزيادة والمدح والصلاح، وكلها معان تتحقق في كل عبادة خالصة صائبة، فبها تطهر النفس، ويزيد الأجر، ويصير فاعلها أهلا للمدح بما قام به من أوصاف الصلاح.

وجاء عطف الذكر والصلاة على التزكية بمعناها العام، من قبيل عطف الخاص على العام تنويها بشأنه، فالذكر والصلاة من أشرف العبادات، والفاء لا تخلو من معنى السببية، فالذكر علم يقوم بالقلب ويظهر على اللسان، والصلاة: شاهد العدل من أعمال الجوارح على ما قام بالقلب من الذكر الباطن وما قام باللسان من الذكر الظاهر، فالتصور العلمي الأول سبب كل حكم عملي ثان: صحيحا كان أو فاسدا، فالصورة العملية الظاهرة فرع عن الصورة العلمية الباطنة: صحة أو فسادا.

بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى: فذلك مما جبل البشر عليه فالنفس الكثيفة لا تتعلق إلا بالمحسوس العاجل، فذلك حال أغلب البشر إلا من لطف كثافة طبعه بمادة النبوات التي تباشر مدارك الحس المعقول في القلوب التي لا زال فيها محال قابلة لآثار الصلاح التي تنتعش بها الأرواح.

فالآخرة وما يتوصل به لنيلها: خير وأبقى، فلو نظر إلى الحقائق المجردة دون العوارض الطارئة من لذات الدنيا المتوهمة، فالخيرة والبقاء على جهة التفضيل منزوعة الدلالة فلا وجه للمقارنة أصلا بين خير الآخرة الباقي وخير الدنيا الفاني.

ثم جاء التوكيد على تلك المعاني الجليلة بإثبات وجودها في الصحف الأولى، فالنبوات، كما تقدم مرارا، يصدق بعضها بعضا، فصدر السياق بالمؤكد الناسخ، وأشير لتلك المعاني بـ: "هذا" لقرب العهد بها، ولقربها من كل قلب حي، فذلك قرب معنوي معقول، فضلا عن القرب اللفظي المقروء، واللام المزحلقة "لفي الصحف".

ثم جاء عطف البيان على جهة التفسير لا التخصيص، فذلك من جملة ما جاء في صحف إبراهيم وموسى، عليهما السلام، فخصا بالذكر لعظم شأنهما، فرسالة الخليل قد جاءت بالحنيفية أصل رسالات الأنبياء من بعده، ورسالة موسى أصل رسالات بني إسرائيل، وقد استدل بعض أهل العمل بهذه الآية على جواز الرواية بالمعنى، فليست تلك الألفاظ بعينها في الصحف الأولى، وإنما معانيها، فلم تكن تلك الكتب عربية كالكتاب الخاتم، ولم تكن معجزة في لفظها كإعجازه، ولم يتقدم نزول آياته بداهة، فلم تنزل إلا على قلب النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذلك من البداهة بمكان.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير