تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

شر من فاعله، إلا بإرادة الرب، جل وعلا، الكونية النافذة، فقد قدر بعلمه الأول المحال والأحوال طيبة كانت أو خبيثة، فاقتضت القدرة والحكمة تيسير أسباب الخير للمحال الطيبة، فـ: (نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى)، وتيسير أسباب الشر للمحال الخبيثة: (أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)، فلكل ما يلائمه، وتلك عين الحكمة، كما تقدم في مواضع سابقة، فلا توضع مادة الخير في محل خبيث لا يقبلها فذلك إهدار لها بوضعها في محل ليس لها بأهل، وذلك وصف يتنزه عنه آحاد الحكماء من البشر، وقد شنع العرب على من صنع معروفا في غير أهله فقال قائلهم:

ومن يصنع المعروف في غير أهله ******* يلاقي كما لاقى مجير أم عامر

فذلك من جنس وضع الشيء في غير موضعه، وإن اختص بالمعروف، فالمعنى العام يشمل كل موضوع في غير موضعه، فـ: (الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ)، و: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ)، فلا يضع حكيم طيبا في محل خبيث، ولا يضع خبيثا في محل طيب، بل لكل ما يلائمه من الأحكام فرعا عما يقوم به من الأوصاف، فكل وصف بحسن أو قبح جالب لحكمه ثناء أو ذما، فإذا ثبت هذا في حق المخلوق على جهة الثناء المطلق، فثبوته للرب، جل وعلا، حاصل، من باب أولى، فتلك من المواضع التي يصح فيها استعمال قياس الأولى في إثبات ما أثبته الرب، جل وعلا، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من صفات الكمال المطلق، فتتعاضد الدلالتان: النقلية الصحيحة والعقلية الصريحة في إثبات خبر الوحي الصادق.

فقالوا: هؤلاء شركاؤنا: ولا تخلو إشارة البعيد من نوع ذم وتنقيص في مقام بيان عاقبة الشرك وأهله، على ما اطرد من استعمال أداة الإشارة للبعيد في موضع الذم، فهي من جهة دلالتها المعنوية تقبل الانقسام إلى: الثناء بالعلو، والذم بالدنو، فتجري مجرى المشترك اللفظي، والأضداد، تحديدا، فلا يفصل النزاع بين معنييها إلا السياق، وهو هنا دال على الذم لقرينة التنابز بين المشركين وشركائهم.

فقالوا: هؤلاء شركاؤنا: والإضافة في: "شركاؤنا"، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، تحتمل معنيين:

الأول: التهكم، فإثبات وصف الشراكة لهم باعتبار ما ظنه المشركون، فهؤلاء شركاؤكم المزعومون، فيكون ذلك من قبيل قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ): فالأمر جار مجرى التحدي والتعجيز للآلهة المزعومة ولا يخلو ذلك من ذم وتنقيص لها، فكذلك الشأن في هذه الآية، فليس في وصفهم بالشركاء: تقرير لمعنى الشراكة، فذلك منتف في حق الرب، جل وعلا، بداهة، فلا شريك له إذ لا رب مالك للأعيان مدبر للأحوال إلا هو، ولا معبود بحق إلا هو، فله تمام الاستحقاق للانفراد بالتدبير الكوني والتأليه الشرعي، فله التمانع في الربوبية تكوينا وتدبيرا: وإن زعم له المشركون: شركاء في التدبير الكوني كما يقع من الغلاة في البشر، وإن كانوا أنبياء أو أئمة أو أولياء، فيقدح قادحهم في كمال انفراد الرب، جل وعلا، بتدبير الكون، بنسبة أفعال الخلق والرزق والضر والنفع ... إلخ من أفعال الربوبية إلى البشر أو الملائكة أو ...... إلخ، على جهة الاستقلال بالتأثير، وذلك معنى باطل، وإن نسب إلى فاضل من نبي أو إمام أو ولي صالح، فالملائكة، وهي الموكلة بحركات هذ الكون، لا تصدر إلا عن أمر الرب، جل وعلا، فـ: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، فبكلماته الكونيات تجري الأسباب المغيبة والمشهودة، فلا استقلال لسبب، وإن عظم قدره ووصفه، بتدبير شيء من أمر هذا الكون، بل لا بد أن يرجع السبب إلى سبب يتقدمه، وكل سبب يفتقر إلى شروط على جهة الإيجاب، وموانع على جهة الانتفاء، فلا يستقل السبب، مع ما أودع فيه من القوى المؤثرة، بإيجاد مسبَّبه، فيرجع، كما تقدم، إلى سبب أعلى، ويرجع السبب الأعلى إلى سبب أعلى ..... إلخ، حتى تنتهي سلسلة الأسباب إلى سبب ليس وراءه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير