تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أن ينظر إلى خصوص السبب، وهو ما عهد من حال العرب آنذاك، فشركاؤهم: الأصنام، على وجه التعيين، فيكون للإضافة في هذا الموضع: دلالة عهدية، فشركاء العرب عباد الأصنام: هم الأصنام التي اتخذوها آلهة مع الله، عز وجل، ولا تعارض بين الوجهين، إذ الصورة الخاصة لا تعارض الصورة العامة، فهي أحد أفرادها، فقد يقال بأن: ذكر هذه الصورة الخاصة لقرينة حال المشركين المواجهين بخطاب التنزيل، لا تعارض الصورة العامة باتخاذ الشركاء، ولو كانوا بشرا، أمواتا أو أحياء، أو شجرا ........ إلخ، فذلك جار مجرى تفسير العام بذكر فرد من أفراده، فلكل زمان شركاؤه، فيشمل الخطاب: الشركاء في زمن الرسالة ابتداء لقرينة خطاب المواجهة، ويشمل سائر الشركاء في كل الأعصار والأمصار والأحوال، لقرينة عموم المعنى، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد يقال بترجيح المعنى الأول ابتداء، لعمومه المعنوي الذي يزيد السياق ثراء بأفراده، والخطب يسير إذ لا يعارض المعنى الثاني: المعنى الأول، بل إنه بمنزلة المثال الشارح له تقريبا إلى ذهن المخاطب، فضلا عن ملاءمته لحال المشركين آنذاك.

ثم جاء بيان وجه الإشراك بالوصف الذي أزال الإجمال في لفظ: "الشركاء"، فجاء التعريف بالموصول على ما اطرد من دلالة صلته على الوصف المؤثر، فهو مناط الحكم: فهؤلاء شركاؤنا: الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ: فخص الدعاء بالذكر، فهو من أعظم صور العبادة، بل قد جاء النص على أنه عين العبادة على جهة القصر الإضافي في معرض التوكيد كما في حديث النعمان بن بشير، رضي الله عنه، مرفوعا: "الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ"، فأكد بتعريف الجزاين وضمير الفصل، وليس هو العبادة كلها بداهة، فلها صور أخرى، ولكنه من أعظمها وأظهرها، فاستحق الإفراد بالذكر على جهة القصر الإضافي من هذا الوجه، واستحق تعليق الحكم عليه في الآية، فلا ينفي ذلك، كما تقدم، وقوع الشرك في غير الدعاء، فله صور أخرى كثيرة، قديمة وحديثة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

وعلى طريقة: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا): جاء رد الشركاء:

فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ: فالتعقيب مئنة من نقض القول السابق، فذلك آكد في فضح كذبهم مع ما يكون لهم من الحسرة العظيمة بتكذيب شركائهم كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فلو حمل لفظ الشركاء على خصوص الآلهة المنصوبة من الحجارة أو الخشب أو المعدن .... إلخ، فإن لفظ الإلقاء فيه إشارة إلى قدرة الرب، جل وعلا، إذ أجرى ذلك القول على ألسنتهم على وجه غير معتاد في دار الابتلاء، فلكل دار أحكامها، ففي دار الجزاء تنطق الجلود والأعضاء: (قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)، وتنطق الآلهة بتكذيب عابديها. والإشارة إليهم بضمير العاقل: "الواو" في: "فَأَلْقَوْا" جار مجرى: تنزيل غير العاقل منزلة العاقل إذ نسب إليه القول وهو من أفعال العقلاء، فذلك من قبيل قوله تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)، فلما فسد عقله وضل سعيه بدعاء غير العاقل نزل منزلة العاقل فجاءت: "من" وهي للعاقل، نائبة عن "ما" وهي لغير العاقل، على جهة الاستعارة ورجع ضمير جماعة الغائبين عليهم باعتبار معنى: "من" فهي من صيغ العموم وهو مظنة تعدد أفراده، فيرجع ضمير الجماعة عليهم.

وإسناد فعل الإلقاء إليهم جار مجرى المجاز العقلي، عند من يقول بالمجاز في الكتاب العزيز، فيجري مجرى: أنبت الربيع البقل، والمنبت باعتبار إجراء أسباب الإنبات هو الله، عز وجل، ومن ينكر المجاز فإنه يجعل ذلك حقيقة إذ قد صدر القول منهم لما خلق الرب، جل وعلا، فيهم القدرة على النطق، كما في قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)، فلهم تسبيح حقيقي لا ندرك حقيقته وقد نسب إليهم على جهة الفعل، فالجهة منفكة، إذ إسناده إليهم باعتبار صدوره منهم بقوى مؤثرة خلقها الرب، جل وعلا، فيهم، وإسناده إليه باعتباره خالق هذه القوى فيهم، فنسبته إليهم: نسبة فعل إلى فاعله وهي نسبة حقيقية لا مجاز فيها، ونسبتها إلى الله، عز وجل، نسبة فعل إلى خالقه، وهي، أيضا، نسبة حقيقية لا مجاز فيها، فلا وجه للمجاز في كلا الحالين، كما أن الربيع هو المنبت بما أودع الرب، جل وعلا، فيه من قوى الإنبات، والرب، جل وعلا، هو المنبت باعتبار خلقه للأسباب والقوى التي يكون بها الإنبات، فالجهة، أيضا، منفكة، فتثبت النسبتان معا على جهة الحقيقة فلا مجاز في كليهما، بل إن القول بالمجاز في تأثير السبب قد يوقع قائله في نوع من الجبر، فيجعل قيام الفعل بفاعله: قياما مجازيا لا حقيقة له، فتكون نسبة الفعل الاختياري إلى الفاعل: كنسبة الفعل الاضطراري إليه، فيجري فعل الصلاة والصيام الاختياري مجرى فعل الموت والمرض الاضطراري، ولازم ذلك إسقاط التكليف بالتسوية بين الأفعال الشرعية التي يتوجه خطاب التكليف بها، والأفعال الكونية التي لا يكلف الإنسان بها لخروجها عن قدرته، فالتكليف لا يكون إلا بمقدور، كما قرر ذلك أهل الأصول.

وجاء توكيد القول إمعانا في النكاية، فكذبهم الشركاء تكذيبا مؤكدا بـ: الناسخ واللام المزحلقة في قوله تعالى: (إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ).

فما كان منهم بعدأن سقط في أيديهم إلا أن:

ألقوا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ: فتلك مشاكلة لإلقاء الشركاء القول إليهم، ولا تخلو من وجه استعارة تمثيلية لطيفة، فحالهم: حال المستسلم الذي يلقي السلاح حال انهزامه.

وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ: فلا قوة لهم في أنفسهم إذ قد استسلموا، ولا قدرة لهم من غيرهم إذ قد جحد الشركاء عبادتهم فأحيط بهم من كل وجه، وذلك آكد في المساءة والنكاية.

والله أعلى وأعلى.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير