تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأصل: القدر المشترك والقدر الفارق أصل جليل لا زال له في المدركات العقلية والحسية مزيد تطبيق، فبه تزول كثير من الإشكالات في مسائل الإلهيات والطبيعيات، فإن خبر النبوة لا يعارض السنة الكونية بل يقررها ويفصلها بما تطيقه عقول المكلفين من المعاني، وما تطيقه حواسهم من المباني، فكثير من سنن الكون قد حجبت عن حواسنا، وإن كان إدراكها في الجملة ممكن، ولك أن تتخيل حال هذا العالم لو كشف الحجاب بينه وبين عالم البرزخ؟!، فسمع البشر وأبصر! هل كانت تصفو له لذة أو تهنأ له شربة أو تروق له لحظة، مع ما في عالم الشهادة بسننه الكونية العامة من كدر، فكيف إذا انضاف إليها سنن عالم آخر قد حجب عنها رحمة ربانية عامة؟!، فرب هذا وصفه هو المستحق للتأليه وحده دون ما سواه فمن كمال أوصافه وأفعاله استمد هذا العالم أسباب البقاء، وبإقامة شرعه تستمد أسباب الصلاح فالوحي معدنها والنبوات مظنتها فهي أصل كل صلاح ظاهر أو بان في هذه الدار.

والشاهد أنه قد أجري القدر المشترك والقدر الفارق في هذه الصورة على جهة النفي لا الإثبات، فإن من آمن بالرب خالقا مدبرا، لزمه التسليم له شارعا حاكما، فمن أين للمشركين في الربوبية أو الألوهية بقدر فارق بينهما يجوز انتحال أحدهم دون الآخر، مع أن دلالة الأولى على الثانية: دلالة لزوم فلا انفكاك فيها بين المتلازمين إلا على أصول العلمانية الماضية زمن الأقيسة العقلية في الإلهيات والحاضرة زمن الأحكام الوضعية في الشرعيات، فمعدن الداء واحد: تقديم العقل على النقل، فسوغ ذلك الفساد التسوية بين المختلفات، بقياس الرب على عباده ذاتا وصفات وأفعالا في الماضي، فوقع الإلحاد في الإلهيات تمثيلا وتعطيلا أدى إلى بدع الحلول والاتحاد المغلظة، ووقع الشرك في الربوبية تصريحا ممن غلا في المخلوقات أو تلميحا على وزان القدرية النفاة الذن ألحدوا في باب القدر فنفوا صفة خلق الأفعال عن الرب وأشركوا معه فيها العبد.

وقياس شرائعه المحكمات على نحاتة أذهان مشرعي الأمم في الحاضر فوقع بذلك الشرك في الألوهية.

وقوله تعالى: تُرِيدُونَ: إرادة العبد امتثال الشرع بقرينة:

وَجْهَ اللَّهِ: فأظهر لفظ الجلالة وحقه الإضمار على ما اطرد في مواضع الثواب من تربية الرغبة، وفي مواضع العقاب من تربية الرهبة.

وحمل الوجه على الثواب في هذا السياق ليس تأويلا إذ القرينة السياقية وهي قرينة لفظية يسوغ العمل بها في الإلهيات والشرعيات على حد سواء بخلاف القرينة العقلية التي لا عمل لها إلا في الشرعيات المعقولة المعنى، دون ما حجبت عنا حكمته من الشرعيات التوقيفيات كصنوف العبادات المقدرة بكيفيات وهيئات لا تتلقى إلا من الخبر فحدها في ذلك حد الإلهيات والغيبيات، فالقرينة السياقية قد دلت على ذلك، كما دلت على إرادة الجهة في نحو قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، فالسياق سياق تحديد جهة يتوجه إليها الإنسان حال صلاته، فتلك قرينة سياقية ترجح إرادة معنى الجهة لا صفة الوجه الذاتية الخبرية الثابتة لله، عز وجل، على الوجه اللائق بجلاله.

وجاءت الحال على جهة المضارعة: "تريدون": مئنة من التجدد والاستمرار، فذلك وصفهم الثابت، وهو آكد في المدح في معرض بيان الثواب، وذلك مما يحمل النفس على تحري وصف الإخلاص قدر الاستطاعة رجاء نيل هذه المنزلة الرفيعة.

فهؤلاء هم الذين عرفوا حقيقة الصفقة، فأودعوا الأموال في خزائن من بيده الملك، فعاملهم بالفضل الذي نهاهم عنه لئلا يتشبهوا به في وصف الغنى الذاتي المطلق، وإن ساغ لهم التشبه بوصف جماله من الكرم بلا عوض مشروط، فقياس الشمول هنا، أيضا، محظور، وهو عين ما وقعت فيه يهود إذ قاسوا زيادة الرب الغني على زيادة العبد الفقير، فقبحوا ما يقبح من المخلوق من الاستقراض بزيادة النسيئة من الخالق الذي الذي وصفه القبض والبسط على جهة الإطلاق في نحو قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُون:

فذلك التفات من المخاطب إلى الغائب على جهة الإشارة إلى البعيد لبيان علو مكانتهم فضلا عن التذييل المعنوي لما تقدم، بإيراد الملزوم عقيب لازمه، إذ لازم التجارة مع الله: تحصيل الربح المضاعف، على ما تقدم من قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، فلم يقيد المضاعفة في آخر الآية إذ لا منتهى لجوده وفضله.

وجاء التوكيد بتعريف الجزأين: "أولئك"، و: "المضعفون"، وضمير الفصل واسمية الجملة، وتعليق الحكم أو المشروط على الشرط بتحقق الوصف الذي تضمنه وهو إيتاء الزكاة على جهة التوكيد أيضا بالنكرة الواردة في سياق النفي: "زكاة" في: "وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ"، ودخول: "من" الناصة على العموم، فكل تلك المؤكدات مما يحسن إيرادها في معرض الترغيب لحمل النفوس على امتثال الأمر رجاء نيل ثوابه من الرب الغني الكريم تبارك وتعالى.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير