تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وعلا، بذاته القدسية وصفاته العلية، وأنكرت النبوات، وأنكرت الشرائع السماوية، فجعلتها من جنس الشرائع الوضعية الأرضية فهي مما ساست به الأنبياء الأمم، فحدها حد السياسات الملوكية، لا الكلمات الشرعية الموحى بها إلى نبي قد اصطفاه الرب، جل وعلا، لتبليغ الرسالة، فصار هو والفيلسوف سواء، بل قد فضل غلاة الفلاسفة كالفارابي الفيلسوف على النبي، ومذهبه يلزم كثيرا من العلمانيين المعاصرين، بل بعضهم قد نطق به صراحة لما زعم أن الإسلام لا يصلح لهذا الزمان فلا بديل عن الأخذ عن عقول فلاسفة البشر من صناع القوانين الأرضية التي تواكب هذا العصر!، مع ما قد علم فيها من الاضطراب والجور بخلاف الشريعة السماوية الخاتمة فإنها من لدن عليم بالحال والمآل حكيم في تدبير شئون العباد، فيدبر شأنهم الكوني بكلماته الكونية النافذة، ويدبر شانهم الشرعي بكلماته الشرعية الحاكمة.

والرضا بالله، عز وجل، ربا حكما يعم سائر مناحي الحياة: فليس مقصورا على جانب دون آخر كما قد يتبادر إلى الأذهان من إنفاذ الحدود ونحوه، لا سيما في الأمصار التي عطلت فيها الحدود، بل هو يعم هذا الجانب وسائر جوانب الحياة: الوجدانية كالولاء والبراء، والمادية كسائر أمور الحرب والسياسة ..... إلخ.

والشاهد أن الإنسان هنا على كل تقدير لا يراد به عموم الجنس استغراقا فمن جنس الإنسان: المؤمن المصدق بالبعث لتواتر أدلته النقلية والعقلية والحسية والفطرية، وهي ما سيأتي طرف منها في قوله تعالى بعد هذه الآية: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ)، ففيها من دلالة الإيجاد المعجز ما يدل على قدرة الرب الصانع، عز وجل، على إعادة الخلق، فإن من أنشأ ابتداء قادر على الإعادة انتهاء من باب أولى.

وقد حمل صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله العموم على العموم العرفي فهو باعتبار الغالب آنذاك فيكون الاعتبار فيه أغلبيا لا كليا، فالغالب عليهم آنذاك: الكفر، وهو أمر حاصل في زماننا، فالغالب على أمم الأرض، وإن ظهرت أعلام الدين الخاتم في كثير من الأمصار، بل في كل أمصار العالم تقريبا، فذلك من تمام البلاغ الذي تقوم به الحجة الرسالية على سائر الأمم، ولكن مع ذلك الظهور إلا أن أغلب أهل الأرض كفار، فالمسلمون يشكلون نحو خمس أو ربع سكان العالم، مع كونهم في ازدياد مستمر فقد تجاوز عددهم لأول مرة عدد اتباع الكنيسة الكاثوليكية التي تمثل جوهر النصرانية الحالية أقوى المنافسين للإسلام على الساحة من جهة عدد الأتباع مع توقع أهل الشأن انفراد الإسلام، إن شاء الله، بالصدارة المطلقة في غضون نحو أربعين سنة تقريبا.

فيكون العموم العرفي في الآية عاما لكل زمان تكون الغلبة العددية فيه للكفار، فـ: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، بل لا يسلم من الشرك إلا قليل فـ: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).

والاستفهام دال من وجه آخر على جواب القسم المحذوف فيقدر بنحو: لنجمعن عظامكم فذلك لازم توبيخ المنكر لذلك، فيأتي الجواب المقدر بإثبات ما نفاه، فذلك من قلب اعتقاده بالنص على ضده، وذلك أبلغ ما يكون في الإبطال، فتعلق التوبيخ بمعتقده، وقدر الجواب مثبتا لضده، فاجتمع في حقه: النفي والإثبات: نفي ما اعتقده وإثبات ضده كما تقدم. وقدره ابن هشام، رحمه الله، بنحو: لا يتركون سدى، وذلك، أيضا، من جنس إبطال معتقد المنكر، فإن إنكارهم البعث يلزم منه ترك البشر سدى، فيصير بعث الرسل عبثا، إذ لا دار وراء هذه الدار ليجزى كل بما عمل، وهو ما نص الكتاب العزيز على نفيه في موضع آخر في قوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، فذلك من الاستفهام الإنكاري التوبيخي لهم باعتبار حسبانهم، والإبطالي لذلك الحسبان.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير