الفعل الواحد وإن وصف إجمالا بالمدح ترغيبا، أو الذم ترهيبا، كما في هذا الحديث، وإن لم يلزم من ذم الفعل ذم فاعله، فقد يكون الفعل: كفرا ولا يكفر فاعله لقيام مانع من موانع التكفير من: جهل أو نسيان أو .............. إلخ، في حقه، فكيف بما هو دونه من المسائل العملية التي يسوغ الخلاف فيها، فلم يجر الخلاف فيها على قاعدة دينية كلية إذ هي من مسائل الخلاف في استيفاء حد من حدود الله، فلم ينكر أحدهما مشروعية الحد، بل لم ينكر أحد استحقاق قتلة الخليفة عثمان، رضي الله عنه، حد القصاص الشرعي، وإنما اختلفوا في التوقيت والكيفية تبعا للمصالح والمفاسد الشرعية المعتبرة التي قد تترتب على ذلك، فرأى فريق المصلحة في التأجيل حتى تهدأ الأحوال وتنطفئ نيران الفتنة المتقدة، ورأى فريق المصلحة في التعجيل انتصارا للخليفة الشهيد، رضي الله عنه، ولئلا يتجرأ مفسد على التطاول على مقام الخلافة الراشدة بعد ذلك، فيكون ذلك حسما لمادة الفتنة فيما يأتي من مستقبل الأيام. فإذا كان الأمر كذلك: أفلا يكون العذر بالاجتهاد والتأول كائنا فيها من باب أولى؟!
فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ: سبر وتقسيم باعتبار أصناف الأموال آنذاك، فهو حاصر من جهة الأحوال، لا من جهة الأعيان، فإذا وقعت الفتنة وعمت، ولمعتزلها مال من غير تلك الأجناس فإن الحكم يجري عليه، إذ ذكر تلك الأجناس من قبيل: ذكر بعض أفراد العام فلا يخصصه، وإنما وردت مورد التمثيل لا السبر والتقسيم.
وفي الإطناب بالتكرار زيادة في المعنى، فذلك أوقع في النفس بيانا لعظم تلك الفتنة وتحذيرا من الولوج فيها، وقد كان ذلك حال معظم الأصحاب، رضي الله عنهم، وصنيع سعد، رضي الله عنه، أصل في امتثال ذلك الأمر النبوي الرشيد.
يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ: كناية عن الكف عن القتال بإتلاف آلته، فليس المراد كسر السيف بكيفية بعينها، وإنما المراد كف البأس عن الجماعة بإغماد السيوف وما شاكلها من آلات الحرب، فهو، أيضا، من قبيل ذكر بعض أفراد العام فلا يخصصه.
فإرادة الكناية هنا ليست مرادة من جهة الحصر، وإن لم يمنع إيرادها إرادة الصورة المذكورة على حد الحقيقة كما تقرر في حد الكناية في كلام البلاغيين.
وفي الأمر بالنجاء بصيغة الشرط: ثُمَّ لِيَنْجُ إِنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ: إلهاب لهمة الفار لينجو ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[13 - 05 - 2010, 08:43 ص]ـ
ومن هذا الباب أيضا: قول أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "إن هذه الفتنة فتنة باقرة كداء البطن، لا ندري أنى تؤتى، تأتيكم من مأمنكم وتدع الحليم كأنه ابن أمس، قطعوا أرحامكم وانتصلوا رماحكم"، وهذه رواية ابن أبي شيبة، رحمه الله، في "المصنف"، ورواية الطبري، رحمه الله، في تاريخه: "إن الفتنة إذا أقبلت شبهت وإذا أدبرت بينت وإن هذه الفتنة باقرة كداء البطن تجرى بها الشمال والجنوب والصبا والدبور فتسكن أحيانا فلا يدرى من أين تأتي تذر الحليم كابن أمس شيموا سيوفكم واقصدوا رماحكم وأرسلوا سهامكم واقطعوا أوتاركم والزموا بيوتكم".
ففي قوله على وجازته بيان بليغ لحال الفتنة فالمقابلة بين حال إقبالها وحال إدبارها بـ: "أقبلت شبهت"، و: "أدبرت بينت": مئنة من اشتباهها على ذوي الأفهام وإلا ما كانت فتنة بظهور الحق جليا في أول أمرها، وإنما يظهر وجه الحق فيها بعد انقضائها.
وفي قوله: "وإن هذه الفتنة باقرة": مجاز إسنادي بنسبة البقر، الذي هو القطع، للفتنة، ويمكن إجراؤه مجرى مجاز السببية إذ الفتنة سبب في وقوع البقر، ويمكن إجراؤه، أيضا، مجرى الاستعارة إذ استعار القطع الحسي للقطع المعنوي، ولا يمتنع الجمع بينهما إذ الفتنة مظنة القطع المعنوي بذهول العقول عن وجه الحق فيها، والقطع بإتلاف الأبدان.
وتشبيهها بداء البطن: تشبيه مرسل مجمل حذف فيه وجه الشبه لظهوره، فذكره فضلة لا حاجة إليها، إذ كلاهما مما يفسد الحال فالفتن مما يفسد القلوب، وداء البطن مما يفسد الأبدان.
وجريان الريح بها مئنة من سرعة سريانها، فاستعار الجريان الحسي للجريان المعنوي، فهي على وزان قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث الدجال: "كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ"، فلو أجريت الاستعارة على هذا الوجه لقيل: هي استعارة مكنية إذ شبه الفتنة بما تحمله الريح وحذف المشبه به وكنى عنه بلازم من لوازمه وهو جريان الريح به، وهي من جهة أخرى: تبعية وقعت في الفعل المشتق: "تجري"، وهي تحقيقية إذ الصورة مما يمكن الإشارة إليه حسا، فحملان الريح لما دق من غيث أو غبار ......... إلخ أمر مدرك بالأبصار. وقد يقال بأن ذلك من باب تشبيه التمثيل، إذ انتزع من الريح التي تعصف تارة وتسكن أخرى صورة مركبة للفتنة التي توقد تارة وتخبو أخرى.
تذر الحليم كابن أمس: مبالغة في وصف اشتباهها على ذوي العقول فتذرهم كالرضع الذين لا عقل لهم.
وفي قوله: "شيموا سيوفكم واقصدوا رماحكم وأرسلوا سهامكم واقطعوا أوتاركم والزموا بيوتكم".
سبر وتقسيم على ما تقدم بيانه فيه الأمر لهم إرشادا بالكف بإتلاف آلات القتال، والكف بالقرار في أجواف الدور.
وشيم السيوف: سلها أو غمدها، قال في اللسان": "وشامَ السيفَ شَيْماً سلَّه وأغمده وهو من الأضداد"، وسياق الكف عن القتال رافع لإجماله مزيل لإلباسه، فالمراد: كفها بالغمد. والسياق، كما تقدم في أكثر من مناسبة، قرينة معتبرة في معرفة مراد المتكلم.
والله أعلى وأعلم.
¥