تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

نعم كثيرة لا يحصيها العادون.

فمن جملة هذه النعم أنه اجتباكم، فاصطفى الأمة الخاتمة بالرسالة الخاتمة، برسم: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، فلفظ الأمة يعم أمة الإجابة أيا كان جنسها أو لونها، فليست الرسالة العالمية بحكر على محال بعينها، بل: (إن أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، والخطاب إما أن يكون للصدر الأول، رضي الله عنهم، فهم أول قرن خوطب بالتنزيل، فيعمهم باعتبار اللفظ والمعنى لتوجه الخطاب إليهم، ويعم غيرهم ممن جاء بعدهم ممن سار على طريقتهم، باعتبار المعنى، ويقال من وجه آخر:

الاجتباء إما أن ينظر فيه إلى هذه الأمة باعتبار طبقاتها، فالصدر الأول مجتبى على بقية قرون الأمة، فتفضيلهم عليهم باعتبار الجميع، فأقل الناس صحبة له صلى الله عليه وعلى آله سلم خير من كل من جاء بعده ممن لم يلق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وإما أن ينظر فيه إلى هذه الأمة في مقابل بقية الأمم، فيكون تفضيلها باعتبار المجموع لا الجميع، فمجموع هذه الأمة خير من مجموع بقية الأمم، وإن لم يلزم من ذلك أن كل فرد من هذه الأمة خير من كل فرد من أمة اليهود والنصارى، بل من اليهود والنصارى قبل التبديل، وقبل النسخ بالرسالة الخاتمة من كان على الحق مقيما، وإن كان قليلا، فهو خير من كثير من المخلطين من هذه الأمة، بل هو خير من المنافقين من باب أولى، فلهم النسبة إلى الأمة الخاتمة باعتبار الظاهر، وهم في الباطن لا يصمدون لمن آمن من قوم موسى: (مِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)، أو آمن من النصارى فـ: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ).

مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ: فذلك من الجعل الشرعي، فما شرع ما فيه حرج، وجاء تنكير "حرج" في سياق نفي مؤكد بـ: "من" مئنة من العموم، فالحرج قليله وكثيره، منفي شرعا، وإن شاء الرب، جل وعلا، وقوعه كونا، لبعض المكلفين ممن أبى إلا التنطع فأوقع نفسه في الحرج، ثم جاءت الحال المقيدة، كما رجح ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فـ: "مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ": قيد زاد الدين بيانا فحصلت الكرامة من هذا الوجه، فنسبة الملة إلى إمام الموحدين عليه السلام، شرف أي شرف!، فضلا عن الشرف الأعظم بالانتساب إلى الرسالة الخاتمة، ورجح أبو السعود، رحمه الله، النصب على الإغراء فيؤول الكلام إلى: الزموا ملة أبيكم إبراهيم عليه السلام، فدينه هو دين النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكلاهما قد بعث بالحنيفية السمحة، وإن اختلفا في جملة من الشرائع، فالأنبياء إخوة لعلات، فالدين واحد وإن تباينت الأحكام العملية زيادة أو نقصانا، تشديدا أو تخفيفا، ومعنى الأبوة، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، إما أن تكون باعتبار خصوص السبب فينظر إلى من توجه إليهم الخطاب، وهم أهل مكة، فأبوة إبراهيم عليه السلام لهم أبوة حقيقية، فهو الأب الأعلى لهم، وإما أن تكون باعتبار العموم، فيتوجه الخطاب إلى كل أتباع الملة الخاتمة من العرب والعجم، فتكون الأبوة: أبوة تشريف، فنسب التوحيد بينهم جامع، فهي من جنس أبوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأمته فـ: "إنما أنا لكم كالوالد لولده أعلمكم"، وكلا المعنيين صحيح فلا إشكال في الجمع بينهما، فهي في حق بعض: حقيقة، وفي آخر: تشريف بالانتساب إلى إمام الموحدين، عليه السلام، لجامع التوحيد بين الأصل والفرع، فيرد الفرع إلى أصله، وأكرم به من أصل.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير