تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإمعانا في بيان فحش جنايتهم جاء العطف: "ويشترون": فاستعير الثمن للرشوة التي يأخذها الحاكم ليحكم بغير الحق، فتلك هي الصورة التي قال فيها ابن عباس رضي الله عنهما: ليس الكفر الذي تذهبون إليه، وإليه أشار صاحب "الأضواء"، رحمه الله، بقوله: "اختلف العلماء في هذه الآية الكريمة، أي في آية: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)،: هل هي في المسلمين، أو في الكفّار، فروي عن الشعبي أنها في المسلمين، وروي عنه أنها في اليهود، وروي عن طاوس أيضاً أنها في المسلمين، وأن المراد بالكفر فيها كفر دون كفر، وأنه ليس الكفر المخرج من الملة، وروِي عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: ليس الكفر الذي تذهبون إليه، رواه عنه ابن أبي حاتم، والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، قاله ابن كثير". اهـ بتصرف

فتلك الصورة الوحيدة التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفرا أصغر، بخلاف التبديل العام للشرائع، أو جحد الشريعة ابتداء، أو الإقرار بها مع الزعم بأنها غير صالحة لهذا الزمان كما هي حال كثير من العلمانيين الذين جعلوا دين الإسلام دينا متحفيا إن صح التعبير فأحالوه إلى التقاعد فهو قصص يتسلى به الأطفال والعجائز!، أو أنها صالحة وغيرها أفضل منها، أو أن غيرها مما يجوز التحاكم إليه وإن كانت أفضل منه ..... إلخ، فكل تلك الصور كما قرر المحققون من أهل العلم: كفر أكبر يخرج صاحبه من الملة، وذلك هو الحكم المطلق فالحكم على فرد بعينه أمر آخر، لا يستقل بإجرائه إلا المحققون من أهل الحل والعقد من العلماء الراسخين، وليس في شغل النفس به لمن ليس له بأهل من عموم المكلفين، ليس فيه كبير نفع، بل يكفي آحاد المسلمين معرفة الحكم العام حذرا من ارتكاب ما يدخل المكلف فيه.

ونكر الثمن تحقيرا، وزيد في إقرار هذا المعنى بوصف الثمن بالقلة، فتنكيره يدل على القلة دلالة قصد، وذكره، من وجه آخر، موطئ للوصف بالقلة بعده، فاجتمعت الدلالتان في معرض بيان الثمن الحقير الذي يدل على دنو همة وخسة نفس آخذه، وقد يقال بأن الوصف بالقلة مئنة من العدم، فلا ثمن ابتداء، إذ كل عرض مهما بلغت قيمته بحساب أهل الدنيا: عدم بحساب دار الجزاء، فلا يليق بعاقل فضلا عن مؤمن موقن أن يبيع دينه به، فتلك الفتنة العامة والطامة الكبرى، فلا مصيبة بعد مصيبة الدين فـ: "يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا".

أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: فجاءت الإشارة إلى البعيد مئنة من التحقير فهم في أدنى المراتب فالمتكلم يشير إليهم إشارة العلي إلى الدني، والمتكلم هو الله، عز وجل، فله العلو المطلق ذاتا وشأنا وقهرا في مقابل دنو منزلتهم حسا ومعنى، فصارت الإشارة بـ: "أولئك": مزدوجة الدلالة فهي تدل على علو المتكلم من وجه، ودنو المشار إليهم من آخر، وهما عند التدبر والنظر: متلازمان، فالعلو يقابله الدنو بداهة، وجاء الحصر بأقوى أساليبه: النفي والاستثناء مئنة مما تقدم من دنو الهمم التي تعلقت بعرض زائل.

ما يأكلون في بطونهم: فاستعارة فعل الأكل لمعنى الأخذ، وتقييده بالبطن، مع أن الأكل لا يستقر إلا فيها بداهة، مما يزيد المعنى بيانا، فهو إطناب في بيان حالهم الخسيسة، فملء البطون مما أجمع عقلاء الأمم على قبحه، فضلا عن اشتراك الإنسان والحيوان فيه، فليس فيه معنى شريف يختص بالإنسان العاقل المكلف ليصح إيراده مورد المدح، بل لا تمدح بملء البطون إلا البهائم، فتوصف البهيمة بالجودة إن كانت تأكل أكثر من غيرها!، فقدم الجار والمجرور: (في بطونهم)، وهو ظرف المأكول: إمعانا في تقرير معنى الذم لهم على هذه الهمة الدنية التي اشترت الفاني بالباقي، والخزف الخسيس بالذهب النفيس، ثم جاء ذكر المأكول على جهة المجاز المرسل، عند من يقول بوقوع المجاز في الكتاب العزيز، فهو من مجاز المسببية، فالنار مسبَّب أكل الرشوة، فأطلق المسبَّب وأراد سببه، وإنما خص الأكل من صور

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير