تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الانتفاع بالرشوة لما تقدم من خسة همة من تعلقت نفسه به، فهو صائر بعد هضمه إلى ما قد علم!، فضلا عن كون الأكل من أعظم صور الانتفاع بالمال حلالا كان أو حراما، فمن حلاله: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ): فكلوا من الطيبيات فهي من آثار ربوبية العناية واعملوا صالحا فذلك واجب الألوهية اللازم لوصف الربوبية المتقدم على ما تقرر مرارا في التنزيل من التلازم الوثيق بين الربوبية والألوهية، وفي عطف الأمر بالعمل الصالح على جهة الوجوب أو الندب على الإباحة على جهة الامتنان دليل لمن قال بضعف دلالة الاقتران فلا يلزم التعاطف: التماثل في الحكم، وإن كان ذلك هو الأصل.

ومن حرامه: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)، و: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، فأطلق الأكل في صدر الآية، ثم أبان عن مراده منه في آخرها: "يكنزون"، فالأكل قد استعير للكنز، فمعنى الجمع في كليهما حاصل، فتجمع اللقم في البطن، وتجمع الأموال في الأكياس والخزائن، وكلا الجمعين، مما أطبق أصحاب العقول على قبحه، فمآله إلى استحالة وزوال، فلا يبقى من المطعوم ما يمدح إلا ما كان من قوة تستعمل في طاعة، فيكون الفعل مع كونه مباحا في نفسه، مندوبا أو واجبا لغيره، فبه يتقوى الآكل، إن كان من أهل التوفيق والسداد، على أداء نافلة أو فريضة، كما أثر عن الثوري، رحمه الله، فكان يأكل كثيرا ليتقوى بالمطعوم على الطاعة، فأكله طاعة بالنظر إلى مآله، فهو سبب في وقوع طاعات مرادة لذاتها فمعنى التعبد فيها ظاهر، بخلاف الأكل فإن معنى التعبد فيه خفي، فليس في الأكل معنى شرعي يمدح لأجله الآكل، فهو من جملة المباحات، وإنما يدخله المدح أو الذم من خارج، فإن استعان به على طاعة صار ممدوحا، وإن استعان به على معصية صار مذموما، فيحتمل كلا الوجهين، بخلاف الطاعة المحضة فلا يتصور معنى المعصية فيها بداهة، فهما من الأضداد التي لا تجتمع في محل واحد من وجه واحد، فلا يكون الفعل طاعة ومعصية في نفس الوقت من نفس الوجه، ولذلك افتقرت المباحات لتصير محلا قابلا للثواب، افتقرت إلى نية أخفى وأعسر استحضارا من نية مباشرة العبادة المحضة، فإنها تفتقر أيضا إلى النية، ولكن معنى التعبد فيها ظاهر فيسهل على مباشرها استحضار نية الطاعة، وهذا أمر قد ظهر أثره في بعض أحكام الفقه عند بعض أهل العلم، فالحنفية، رحمهم الله، على سبيل المثال، لا يوجبون النية في العزائم كالوضوء، فهو مما شرع عزيمة، فمعنى التعبد فيه بغسل أعضاء مخصوصة: معنى ظاهر لا يفتقر إلى نية، بخلاف الرخص كالتيمم، فمعنى التعبد فيه خفي، فطهارته حكمية تستباح بها العبادات ولا ترتفع به حقيقة الحدث المانع من أدائها، فيبطل فور وجدان الماء، فلما كان أمره خفيا، فهو خلاف الأصل، صار استحضار النية فيه واجبا.

ومن ينكر المجاز فإنه يرد ذلك إلى لسان العرب، فإطلاق المسبب وإرادة السبب مما عرفته العرب في كلامها، وفي التنزيل: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ)، فأطلق الرزق وهو المسبب وأراد سببه وهو المطر، فصار حقيقة من هذا الوجه، وإن استعمل اللفظ في غير دلالته المعجمية، فالنار لا تؤكل بداهة، والرزق لا ينزل من السماء وإنما ينبت من الأرض بمباشرة الماء لقوى الإنبات في البذر.

وقد يقال بأن أكل النار في الآخرة على حقيقته، فيصور لهم من النار طعام، كما يصور لهم الشراب واللباس والمهاد ... إلخ، فحياتهم فيها حياة نارية، عافاكم الله، فلا يكون في الكلام شبهة مجاز ابتداء.

ثم جاء الإطناب ببيان العذاب المعنوي بعد العذاب الحسي:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير