تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي السياق، كما يقول صاحب التحرير والتنوير، رحمه الله، مجاز مرسل مركب، إذ استعير الخبر في قوله تعالى: (إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)، للإنشاء، فهو خبري المبنى إنشائي المعنى، ففيه نوع حض على الهجرة من الأرض التي تتعذر فيها إقامة أحكام الديانة، وإن لم يصل إلى حد الوجوب الملزم آنذاك، فلم تجب الهجرة إلا بعد ذلك، فدعا الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ربه: (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا)، فهو خبر أريد به إنشاء الحض، ولو إشارة غير صريحة، توطئة للأمر الصريح الذي جاء بعد ذلك، فيجري ذلك مجرى الخبر في نحو قول الشاعر:

هواي مع الركب اليمانين مصعد ******* جنيب وجثماني بمكة موثق

فهو خبر أريد به إنشاء التحسر، فصار خبرا باعتبار اللفظ، إنشاء باعتبار المعنى.

وقول الآخر:

إن الشباب الذي مجد عواقبه ******* فيه نلذ ولا لذات للشيب

فهو خبر عن أحوال الشباب أريد به إنشاء التحسر على انقضاء تلك الأحوال، فليس منها شيء حال الشيب.

ومن ينكر المجاز فإنه يرد ذلك، كما تقدم مرارا، إلى لسان العرب، فهو الحجة في فصل النزاع بين مثبتي المجاز ومنكريه، فالمثبت يحتج بأن ذلك مما ألفته العرب في كلامها فصار حقيقة وإن لم تستعمل الألفاظ في دلالاتها المعجمية المطلقة، فقرينة السياق، وهي قرينة لفظية معتبرة، قد دلت على مراد المتكلم ابتداء، فصار التركيب بمنزلة الحقيقة العرفية المعهودة في كلام العرب، فتقدم على الحقيقة اللغوية المطلقة التي تدل على معاني الألفاظ التي يتركب منها السياق دون نظر إلى قرينة السياق الذي ينتظمها.

والآية جارية على ما اطرد في التنزيل من التمهيد الذي يسبق تقرير الأحكام صراحة، فذلك من التوطئة التي تيسر على المكلف الامتثال لاحقا إذا ورد الحكم الصريح، فالنفس قد تهيأت بما حصل لها من التنبيه بتلك الإشارات اللطيفة، فإذا ورد الحكم وجد محلا ملائما، فذلك من جنس التمهيد إلى تحريم الخمر بقوله تعالى: (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا)، فنفى الحسن عن السكر وأثبته للرزق فدل ذلك على نقص في السكر يجعله مظنة التحريم لاحقا، والتمهيد إلى تحريم الربا بقوله تعالى: (وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)، فلم تتعرض الآية لتحريم ملزم، وإنما ذكرت ما يلزم منه ذم الربا، فتلك أولى درجات التحريم.

وذلك ملمح من ملامح الإعجاز التشريعي في الكتاب العزيز، فقد نظر إلى نفوس وعوائد المكلفين، فمهد قبل تقرير الحكم صراحة لئلا تنفر النفوس بما جبلت عليه من إلف العوائد ولو باطلة.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير