تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أوروبا: معقل العلمانية الرئيس خيرا لكثير من المضطهدين المسلمين من بلادهم الأصلية، ففروا إلى دار كفر فيها نوع عدل، وإن كان محدودا، ليس في دور المسلمين نظيره!، وتلك مفارقة عجيبة فتنت فئاما من أبناء زماننا بالتجربة العلمانية الأوروبية فظنوا أن النجاة في نقل هذه التجربة بحذافيرها، مع البون الشاسع بين الظرف الأوروبي والظرف الإسلامي، فأوروبا لم تعرف يوما دينا صحيحا يكفل الحريات الآدمية، فكانت ثورتها على دين الكنيسة ثورة تصحيح من هذا الوجه، وإن صاحبها صور من التخريب للأديان والأخلاق، بينما عرف المسلمون في عصورهم الزاهية معنى الحرية الحقيقية، فكانت حريتهم شرعية تستند إلى الوحي فليست منة من حاكم أو عطية تتسولها الجماهير أو تنتزعها انتزاعا من السلطة الحاكمة، بل هي حرية: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، فلما غيب الإسلام، ظن أبناؤه المتأخرون، أن الوضع المزري الذي نعيشه في الأعصار المتأخرة هو الإسلام، فهو دين الاستبداد والمعتقلات وقمع الحريات لمجرد أن تلك الأفعال الشائنة تقع في بلاد المسلمين فقط!، وهل زعم أحد أن هذا هو الإسلام، وإن كان ذلك مسلك المتملكة برسم الجبر والقهر في بلاد المسلمين في الأعصار المتأخرة، فلما قيس الدين الخاتم لسوء مسلك أولئك الظاهر، لما قيس على دين الكنيسة، لعلة الاستبداد، أنتج هذا القياس الفاسد نتيجة فاسدة هي: أنه لا بد من ثورة علمانية على الدين كتلك التي ثارتها أوروبا على الكنيسة، لينتزع المسلمون حرياتهم المفقودة كما انتزعها الأوروبيون، وكأن تلك الحقوق لم تكن مكفولة، بل واجبة، في الدين الخاتم، فلم يكن كدين الكنيسة الذي كان يكرس الاستعباد والإذلال للبشر بحجة أن ذلك عقاب إلهي على الخطيئة الأولى التي يولد الإنسان بها، فدنسها قد طال كل الأجيال حتى بعد نزول المخلص وصلبه فداء للنوع الإنساني!.

فجاء التنبيه بالعلة قبل الإشارة إلى المعلول إشارة لطيفة، فصدرت العلة بالناسخ المؤكد: (إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ)، فذلك من كمال ربوبية الباري، عز وجل، كما تقدم، فإذا ثبت كمال وصف الربوبية له، ثبت لزوما واجب كمال الألوهية، فـ: (ِإيَّايَ فَاعْبُدُونِ)، فالفاء تفريعية قد أشربت معنى السببية، فما قبلها، من التمانع في الربوبية فالأرض أرضه، جل وعلا، إيجادا وملكا وإعدادا، فلا منازع له في ذلك، فهو المالك لعينها الملك المدبر لأحوالها، وإن زعم من زعم من أهل الشرك في الملك أو التدبير وجود من يشركه فيهما فشاهد الشرع والعقل والفطرة والحس دال على بطلان زعمه، فانتظام أمر الكون على هذا النسق المحكم يولد في النفس علما ضروريا جازما بوحدانية الرب، جل وعلا، ذاتا، وأحديته، صفات، فلا ند يساميه في كمال ذاته، ولا شريك ينازعه تدبير الكون، فله الملك والتدبير ولوازمهما من: إيجاد وإجراء للأرزاق ... إلخ، والشاهد أن ما قبل الفاء مما تقدم من التمانع في الربوبية يدل لزوما: دلالة السبب على مسبَّبه، على التمانع في الألوهية، فلا معبود بحق سواه، ولذلك توجه الأمر بإفراده، جل وعلا، بالعبادة، على جهة الحصر والتوكيد بتقديم ما حقه التأخير فتقدم المعمول على عامله، فتأويل هذا الأمر: حصر آخر في أم الكتاب في قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، فذلك تأويل الأمر في آية العنكبوت بامتثاله، فذلك جار على ما تقرر مرارا من التلازم الوثيق بين الربوبية مقدمة، والألوهية نتيجة، وذلك جار على أصول الاستدلال العقلي الصريح، على ما تقدم مرارا أيضا، من موافقة صحيح المنقول من الوحي لصريح المعقول من القياس، فالقياس القرآني بشتى صوره: أولويا كان، أو طرديا، أو عكسيا .... إلخ أحكم قياس فمجريه جل وعلا، هو: أحكم الحاكمين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير