تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم جاء العلة لها النهي: فـ: (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ): فعسى في التنزيل تحمل على تحقق الأمر بعدها، فليست دلالتها في التنزيل كدلالتها في غيره من الاختيار أو الضرورة من الترجي، ولا يعني ذلك التقييد بالمفهوم، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فلا يقال: لا يسخر قوم من قوم لأنهم خير منهم، فيفيد ذلك بمفهومه: جواز السخرية منهم إن لم يكونوا خيرا منهم، فالسخرية ممنوعة في كل الأحوال، سواء أكان من سخر منه أعلى أم أدنى، بل لو قيل بتأكد ذلك في حق الأدنى لكان أولى لكونه مظنة الانتقاص.

ثم جاء النص على النساء فذلك استيفاء للشطر الثاني من شطري القسمة العقلية، فيكون الكلام على هذا الوجه محمولا على التأسيس، فقد ذكر صنف الرجال ثم ثنى بصنف النساء، ومن قال بأن "قوم" في الشطر الأول يعم النساء بدلالة اللفظ، فهو اسم جمع، فيعم الذكور والإناث معا، أو بدلالة التغليب، فهن داخلات فيه تبعا، من يقول ذلك، فإنه يجعل ذلك من قبيل الإطناب بذكر الخاص بعد العام تنويها بحكمه، لما تقدم من كثرة هذا الأمر في النساء، فحسن التنبيه بإفرادهن بالذكر كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.

وأعيدت العلة: (عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ): توكيدا أيضا.

ولكل وجه، فمن قال بأن الكلام على التأسيس فهو جار على الأصل، فإن الكلام إذا دار بين التأسيس والتوكيد فحمله على التأسيس لمعنى جديد أولى ليستفيد المخاطب معنى زائدا لم يكن قد تقرر عنده من قبل، ومن قال بأن ذلك من الخاص بعد العام، فيكون توكيدا بالتكرار، فله وجه بلاغي تقدم ذكره، فذلك مما يسوغ الخروج عن الأصل فيحمل الكلام على التوكيد للنكتة البلاغية آنفة الذكر.

وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ: فذلك جار على ما تقدم من عموم النهي الذي كررت أداته توكيدا ولطول الفصل، وتعلق النهي بـ: "أنفسكم"، إما على معنى: غيركم، كما في قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ)، فيقتلون غيرهم بداهة، وإن كانوا من جماعتهم، وإما تأليفا وتعطيفا للقلوب بإنزال الغير منزلة النفس لمكان الأخوة الإيمانية التي تجعل الأخ كالنفس، فـ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"، و: "أنفسكم" من صيغ العموم أيضا، فالجمع المضاف إلى الضمير من صيغ العموم القياسية كما قرر ذلك أهل الأصول.

وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ: فجيء بالفعل على صورة المفاعلة، لأن التنابز مظنة ذلك، بخلاف اللمز، فلا يصدر غالبا إلا من واحد، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، واللقب، كما اطرد في لسان العرب مظنة الذم، بخلاف التكنية فهي مظنة التعظيم والمدح، وشاهده من كلام العرب قول الشاعر في البيت المعروف:

أكنيه حين أناديه لأكرمه ******* ولا ألقبه والسَّؤْأةُ اللقب.

فنص على أن اللقب سوأة على جهة القصر بتعريف الجزأين فذلك من القصر الإضافي مبالغة في تقرير المعنى.

بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ: فذلك من التعليل لما قبله تنفيرا منه، فحسن الفصل بينهما لما تقرر مرارا، من التلازم الوثيق بين العلة والمعلول فبينهما شبه كمال اتصال في المعنى، فالعلة: ملزوم، والمعلول الصادر عنها لازمها، وذلك من الترابط العقلي الوثيق بمكان.

فبئس الوصف، على حمل الاسم على الوصف، كما اطرد في لسان العرب في نحو قولك:، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فبئس الاسم الشرعي الذي يدل على تعلق الذم بصاحبه فالفسق: خروج عن أحكام الديانة، فمنه الأكبر، ومنه الأصغر الذي يخرج صاحبه عن الإيمان الواجب فيقدح فيه دون أصله، فصاحبه من أهل الوعيد وإن لم يكن كافرا بمعصيته التي استوجبت تفسيقه ما لم يستحلها، وهو مما يحسن حمل المعنى في الآية عليه، فتلك المحرمات لا تخرج صاحبها من دائرة الإيمان بالكلية، فيخرج بها من دائرة الإيمان المطلق الأخص إلى دائرة مطلق الإيمان أو الإسلام الأعم كما أثر ذلك عن الإمام أحمد رحمه الله.

فتعلق الذم القياسي بـ: "بئس" بمن خرج من الإيمان إلى الفسق العملي فزال عنه اسم المؤمن، وتعلق به اسم: الفاسق، وقد قيده بعض أهل العلم في حال الكبائر والمعاصي بـ: "الملي" نسبة إلى الملة ليميز بينه وبين الفاسق فسقا أكبر يخرج صاحبه من الملة.

ثم جاء التذييل بالشرط في معرض التهديد:

وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ: فأكد على تعلق وصف الظلم، ومنه، أيضا الأكبر والأصغر على التفصيل السابق في الفسق، والأليق حمله هنا، أيضا، على الظلم الأصغر، فمن لم يتب فأولئك على جهة التوكيد بتعريف الجزأين وضمير الفصل: "هم"، فأولئك هم الظالمون.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير