تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فأنزل من السماء رزقا، وأنبت من الأرض آخر، ثم أنزل الشرائع وبعث ملائكته بكلماته الشرعيات إلى صفوة خلقه ليبلغوا رسالات ربهم، جل وعلا، فرزقه قد تعددت صوره وتنوعت أصنافه، فمنه المعقول من وحي قد جمعت كلماته أصول العلوم النافعة والأعمال الصالحة، ففيه الخبر عن الغيب، فهو مما تتشوف إليه النفوس لعجزها عن إدراكه، فوصف الرب، جل وعلا، وهو أشرف غيب، فمسائل الإلهيات آكد العلوم ضرورة، فالنفس لا تقر حتى تدرك من وصف المعبود، جل وعلا، ما تركن إليه، فهو خير زاد للروح في سفر الهجرة إلى الرب، جل وعلا، فيدرك العابد من كمال معبوده، ما يجعله يقر بكمال استحقاقه لتوحيد العبودية، فلا يتوجه إلا لمن كمل وصف ربوبيته ذاتا وفعلا، فهو المستحق، لزوما عقليا لا انفكاك فيه كما تقدم مرارا، لكمال وصف الألوهية إيمانا باطنا وانقيادا ظاهرا، فالتلازم بينهما من جنس التلازم بين الربوبية والألوهية، فالربوبية: ملزوم، والألوهية: لازمه، وكذلك التصور العلمي الباطن: ملزوم، والظاهر: لازمه، فلا انفكاك بينهما إلا إن كان ثم دعوى بصلاح الباطن مع فساد الظاهر، فتلك دعوى يكذبها الشاهد، فلا يكفي التصديق الباطن، لنيل مرتبة الإيمان الواجب الذي ينجي صاحبه من الوعيد، وإن ثبت به عقد الإيمان الأول ما لم يقع صاحبه في ناقض من نواقض الإيمان المعروفة، خلافا لما ذهب إليه المتكلمون الذين حصروا الإيمان في معنى التصديق الباطن وإن لم يكن ثم شاهد من الظاهر، فذلك من الانفكاك الذي لا يتصور وقوعه في الخارج، فتجريد الباطن من الظاهر الذي يصدر عنه لزوما، تجريد ذهني لا وجود له في عالم الشهادة، فليس إلا تصورا عقليا محضا، يجرد فيه الذهن: قوى علمية مكتملة في الباطن، وقوى عملية صحيحة في الظاهر، ثم يفترض وجود أحدهما دون الآخر، فقد يوجد الظاهر الصالح مع فساد الباطن في حال النفاق، ولكنها حال طارئة، فهي خلاف الأصل، فلا بد أن يظهر من صاحبها ما يشي بمكنون فؤاده وإن اجتهد ما اجتهد في إخفائه، وأما أن يوجد باطن صحيح مكتمل، وآلة ظاهرة صحيحة، وتنتفي موانع وقوع الفعل المصدق لما وقر في القلب من الإيمان، فذلك من الفرض العقلي الذي لا وجود له في عالم الشهادة، فليس كل ما يقترحه الذهن من الفروض العقلية بواقع في عالم الشهادة، فقد يقترح ممكنا فلا يقع لعدم المرجح، وقد يقترح محالا، كهذه الصورة، فيمتع لذاته، فإنه مما لا يقع أبدا لمخالفته السنن الكونية التي يدبر بها الرب، جل وعلا، القلوب والأبدان، فتجريد التصور العلمي الأول عن الحكم العملي الثاني الذي يصدقه تصديق الشاهد للمدعي، ذلك التجريد من جنس تجريد الذات عن أوصافها، فذلك، أيضا، مما لا يكون إلا في الذهن، الذي يجرد ذاتا بلا وصف، ومعان مطلقة لا توجد إلا في الذهن، فإن الكلي المطلق لا يوجد إلا في الذهن الذي يتصور المشتركات المعنوية فلا يمنع ذلك وقوع الشركة فيها، بخلاف الشركة في خارج الذهن فهي ممتنعة، فلا يشترك اثنان في عين الوصف وإن اشتركا في نوعه، فيشترك زيد وعمرو في وصف العلم فذلك من المشترك المعنوي المطلق الذي لا يمنع تصوره تعدد الشركاء فيه، ولا يشتركان في علم عمرو بعينه، فهو فرد من أفراد النوع يمنع تصوره وقوع الشركة فيه، فلا يشرك عمرا فيه أحد، لورود القيد بالإضافة إليه، فهو قيد مانع يحصر الوصف في فرد بعينه، فالمطلق قبل ورود القيد عليه: كلي عام، وبعد ورود القيد عليه: جزئي خاص، فليس في عالم الشهادة إلا ذات موصوفة بصفات قائمة بها فذلك التقييد من جنس تقييد الباطن بلازمه من الظاهر، فليس، أيضا، في عالم الشهادة إلا باطن علمي وظاهر عملي يصدقه لزوما إذا صحت الآلة وانتفى المانع. وهذا أصل جليل، كما تقدم في أكثر من موضع، في باب الإلهيات فأوصاف الرب، جل وعلا تشترك مع ما يقابلها من صفات العبد، في المعاني الكلية المطلقة كالعلم والسمع والبصر ..... إلخ من الأوصاف الربانية الثابتة، دون الحقائق الجزئية المقيدة خارج الذهن، فلكل ما يليق بذاته كمالا أو نقصانا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير