تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الأبدان، فالروح من أمر الرب، جل وعلا، فمنه الروح الكوني فهو من الأمر الكوني فيسوق الملك الموكل بالسحاب: السحابَ إلى البلد الميت، ومنه الروح الشرعي فهو من الأمر الشرعي الذي ينزل به أمين الوحي على قلب الرسول البشري فيسوقه إلى القلوب الميتة، فروح الرب، جل وعلا، التي أضيفت إليه إما على جهة التشريف إن أريد بها ما ليس من صفاته من سائر المخلوقات كالمسيح عليه السلام فهو روح الله، والريح فهي من روح الله، فهي من جملة الرحمات التي يحيي بها الرب، جل وعلا، الكائنات، وإما على جهة الوصف إن أريد بها رحمة الوحي فهو من كلماته الشرعية النازلة، كل أولئك من أظهر أدلة عناية الرب، جل وعلا، بالنوع الإنساني، فقد أنزل الروح الكوني من أسباب حياة الأجساد، والروح الشرعي من أسباب حياة الأرواح.

ومن الرحمة اشتق الرحم، فهي مئنة من الود والصلة، فيلائمها معنى الرحمة، ولذلك كان حقها عظيما، فـ: (إِنَّ الرَّحِمَ شَجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَقَالَ اللَّهُ مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ)، ولذلك حل الشؤم على كثير منا في هذا الزمان الذي قطعت فيه الأرحام تقطيعا، فهي معصية عالمية، إن صح التعبير لم ينج منها صالح أو طالح إلا من رحم الرب جل وعلا.

والشاهد أن الكتابة هنا، كتابة كونية على جهة الجزم، فلا يكتب على الرب، جل وعلا، أحد من خلقه، خلافا لمن قاس أفعال الرب، جل وعلا، على أفعال خلقه، فاقترح شريعة بها يحسن ويقبح، ويوجب ويجيز ويمنع، في حق الرب، جل وعلا، ما يحسن ويقبح في حق البشر، فيوجب على الرب، جل وعلا، جنس ما يجب على العباد، فوقع في تشبيه الأفعال، فأفعال الرب، جل وعلا، عنده من جنس أفعال العبد، فيجب عليه أن ينفذ وعيده، ويجب عليه أن يبعث الرسل ..... إلخ من قائمة طويلة من الواجبات والممتنعات على الرب، جل وعلا، فيها من سوء الأدب والتعدي على مقام الربوبية الحاكمة الآمرة القاهرة ما فيه، فلا يكتب على الرب، جل وعلا، إلا هو، فكتب على نفسه الرحمة فضلا، و: "أل" في "الرحمة": جنسية استغراقية فتعم، كما تقدم، الرحمات العامة والخاصة، فهي من أظهر أدلة العناية العامة بالبشر، والعناية الخاصة بالمؤمنين، وذلك عموم محفوظ، فقد يقال بحفظ عموم: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ"، قياسا على هذا العموم، فتكون رحمته، جل وعلا، قد عمت كل شيء، فمنها، كما تقدم، العام: أثر اسمه الرحمن، فقد عم سائر الخلائق حتى إبليس معدن الشر في هذا العالم، ومن يقول بالتخصيص فإنه يقصرها على المؤمنين لقرينة التذييل بـ: "فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ"، فتكون من جنس الرحمة الخاصة، وذلك، أيضا، لا يمنع عموم رحمته الأولى، فالجهة منفكة، لاختلاف المتعلق في كليهما، فمتعلق الرحمة العامة اسم: الرحمن، ومتعلق الرحمة الخاصة اسم: الرحيم، فلا إشكال في حمل لفظ: "الرحمة" في الآية على كليهما فذلك جار على ما تقدم مرارا من إثراء السياق بتوارد أكثر من معنى على اللفظ الواحد على وجه لا يقع فيه التعارض.

فمقابل هذا العموم في "أل" في "الرحمة": العموم الذي أفادته "أل" في "السماوات والأرض" في صدر الآية، فله عموم ما في السماوات والأرض خلقا وتدبيرا، كما تقدم، فذلك من أدلة ربوبية الإيجاد، وله عموم الرحمة: خاصة وعامة، فذلك من أدلة ربوبية العناية، فذلك جار على ما اطرد مرارا من الاستدلال بالربوبية: إيجادا وعناية على الألوهية تصديقا وامتثالا، ولذلك جاء الجواب: "قل لله"، فما في السماوات والأرض لله، جل وعلا، وهو، على القول باشتقاقه من جهة أحكام اللسان لا من جهة القول بحدوثه بعد أن لم يكن فذلك منتف في حق الرب، جل وعلا، الأول بذاته وأسمائه وصفاته، هو على ذلك القول مشتق من مادة: "أله" فيدل على معاني العبودية فهي لازم ما صدرت به الآية من معاني الربوبية.

ثم جاء التذييل بـ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ، بعد التمهيد بـ: "قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وفيه من معاني الوعد والوعيد بحسب حال المخاطب، فمن كان مؤمنا فالجمع يوم القيامة في حقه وعد بالنعيم السرمدي، ومن كان كافرا فالجمع في حقه وعيد بالعذاب السرمدي، فذلك جار، على ما تقدم مرارا، من تعلق الأحكام كونية كانت أو شرعية بالأسماء، والأسماء تدل على أوصاف ومعان يصح التعليل بها للأحكام، فاسم المؤمن قد اشتق من معنى الإيمان وهو مما يصح تعليل حكم النجاة به، واسم الكافر قد اشتق من معنى الكفران، وهو، أيضا، مما يصح تعليق حكم الهلاك به. وفي الكلام: توكيد بالقسم المحذوف الذي دلت عليه لام الجواب ونون التوكيد المثقلة في جوابه: "ليجمعنكم"، فتقدير الكلام: والله ليجمعنكم، فاستغني عن ذكر المحذوف بما قد دل عليه من لفظ المذكور، فذلك من إيجاز الحذف، وهو من صور الإيجاز البليغ في آي التنزيل، فذكر ما قد علم من السياق بداهة مما يعاب به قائله، فهو حشو لا فائدة منه، والرب، جل وعلا، أولى من نزه عن ذلك.

ثم جاء التذييل بـ: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فذلك جار مجرى القاعدة العامة، فناسب أن يرد التعريف بالموصولية، فهي من صيغ العموم القياسية، وناسب، أيضا، أن يقترن الخبر بالفاء فقد أشرب الموصول معنى الشرط لدلالة كليهما على العموم، فإسناد الخبر إلى من تحقق فيه المعنى الذي اشتق منه المبتدأ، أو اشتقت منه صلته إن كان موصولا، من جنس تعليق المشروط على شرطه، فالذين خسروا أنفسهم هم الذين لا يؤمنون، تكافئ في معناها: من لم يؤمن فقد خسر نفسه، وقد استعار معنى الخسارة في التجارات، فهي خسارة مادية، لمعنى الخسارة المعنوية التي وقع فيها من لم يؤمن، فهي خسارة معنوية، فاستعارة المعاني المحسوسة تقريبا للمعاني المعقولة من صور البيان الوافي في آي الكتاب العزيز.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير