تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فلا يلتبس أمرهما على من رزق سدادا ودقة في النظر، فلا يصدر حكمه إلا عن تدبر في آي التنزيل، فالصادق لا يشتبه أمره بالكاذب، وإن التبس بادي الرأي، فذلك مما يبتلى به العباد لينظر أيزنون الأمر بميزان الوحي أم بميزان الهوى الذي يخدع صاحبه بأمارات الصلاح الظاهر، أو خوارق العادات، فيغفل عن مطالعة أحوال مدعي الولاية، فمن رحمة الرب، جل وعلا، أن فضح مكنون الصدور بالفلتات واللفتات مهما اجتهد صاحبها في إظهار ما يخالفها.

والرحمة، مادة استعملت في لسان العرب، للدلالة على الفعل، وعلى أثره، فالفعل هو الرحمة التي قد علم معناها، وإن اختلفت حقيقتها في الخارج كسائر المطلقات الذهنية التي يرد عليها القيد، فالصفة فرع عن الموصوف بها، فتتبعه كمالا أو نقصانا، فليست رحمة الله، عز وجل، التي هي وصف فعله المتعلق بمشيئته فيحدث من آحاده ما شاء كيف شاء متى شاء على وجه لا مثيل له ولا شبيه، ليست تلك الرحمة من جنس رحمة الخلق، بل: "إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، وهي، أيضا، مادة تستعمل في الدلالة على آثار رحمة الرب، جل وعلا، في كونه، فالرياح: رحمة، كما ذكر ابن منده، رحمه الله، في "كتاب التوحيد" في فصل: "بيان أسماء الرياح والريح من الكتاب والأثر وهي: الرحمة، والمخيلة ......... "، والنبوة رحمة، فـ: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا)، والكتاب العزيز رحمة فـ: (لَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، كما حكى صاحب "اللسان" رحمه الله، وقد حمله على تقدير مضاف محذوف، فالكتاب العزيز ذو رحمة، فبتصديق أخباره وامتثال أحكامه يرحم البشر، وبتلاوته تتنزل الرحمات، وتستدر الحسنات، وهي سبب نيل الرحمات في دار الجزاء، فيكون ذلك من باب الإخبار بالمسبَّب وهو الرحمة عن سببه وهو الكتاب العزيز، فالرحمات، كما تقدم: عامة وخاصة، شرعية وهي الأشرف قدرا والأعظم شأنا فتقابل الرحمة الخاصة، وكونية فتعم المؤمن والكافر فالرياح من الرحمات الكونية التي تنتفع بها جميع الخلائق، وإن صيرها الرب، جل وعلا، في حق أقوام عذابا، فـ: (لَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)،، فجاء الإضراب الإبطالي: "بل": إمعانا في النكاية فجاء الوارد على الضد من مقصودهم، وعلى غير مرغوبهم، على نحو مفاجئ غير متوقع، وأجمل ما نزل بهم، تشويقا وتهويلا بالإبهام في: "ما"، ثم بين: "رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ"، فذلك جار على ما قرر أهل اللسان من كون إفراد الريح مئنة من العذاب بخلاف الرياح المجموعة فهي مئنة من البركات التي يلائمها الجمع، فالرب، جل وعلا، قد كتب على نفسه أجناس الرحمات على الوجه اللائق بجلاله، وقد سوى بعض أهل العلم بينهما كما بوب لذلك ابن منده، رحمه الله، بقوله: "ذكر الفرق بين الريح والرياح ومن قال: إن الله يرسل الريح للنقمة، والرياح للرحمة، ومن قال: معنى الرياح والريح واحد"، فمن ذلك حديث عمر، رضي الله عنه، مرفوعا: "الريح من روح الله عز وجل تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فلا تسبوها واسألوا الله عز وجل خيرها واستعيذوا بالله من شرها"، فذلك من روح الله الكوني، فمنزلتها منزلة الروح من البدن فبها تساق المزن التي تحمل الماء: مادة حياة الزرع والبدن، كما أن من روحه، عز وجل، روح شرعي، فـ: (كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، فهو مادة حياة الأرواح كما أن الماء مادة حياة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير