تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

شهدت الكتب، فإن أمعنوا في الإنكار شهدت الجلود والأعضاء، فذلك من كمال عدله، عز وجل، فلم يسأل ليستعلم، وإنما سأل ليقيم الحجة ويقطع المعذرة.

ثم جاء الإطناب ثالثا: ولا يزكيهم: فذلك من قبيل التذييل بالعموم عقيب الخصوص، فالتزكية معنى عام يدخل فيه نظر وكلام الرضا وسائر صور التزكية المعنوية والحسية، ثم جاء التذييل بالإثبات عقيب جملة من المنفيات، فنفى عنهم ما يسر، فذلك من النكاية بالسلب، وأثبت لهم ما يسوء، فذلك من النكاية بالإيجاب، فاجتمع في حقهم الإثبات والنفي، فذلك من تنوع العقوبات التي تدل على كمال قدرته وعزته، جل وعلا، ويقابله تنوع صور الثواب فذلك، أيضا، مئنة من كمال قدرته ورحمته، جل وعلا، فثبت بكليهما: الجلال في حق الكافرين والعاصين، والجمال في حق المؤمنين والطائعين، فله، جل وعلا، الكمال جلالا وجمالا. وقدم ما حقه التأخير في: "ولهم عذاب أليم": مئنة من الحصر والتوكيد فضلا عن دلالة اللام على الاستحقاق، وتنكير العذاب تعظيما، وتقديمه توطئة لوصف الإيلام، فكل ذلك جار على ما تقدم من زيادة النكاية في أولئك الثلاثة:

ثم جاء البيان بعد حصول التشويق بجملة الأوصاف السابقة:

رجل عنده فضل ماء منعه من ابن السبيل: فالتنكير مئنة من النوعية فوروده في سياق الإثبات مئنة من الإطلاق، فليس المراد به رجلا بعينه، وإنما المراد نوعه، وتصدير الكلام به جار على ما تقدم من التوطئة لوصفه فهو محط الفائدة، فحصل بذلك، أيضا، نوع تشويق بإجمال في الموصوف بينته الصفة فمنع ابن السبيل أو غيره ممن يحتاج إلى الفضل من ماء أو زاد، فالمعنى أعم من الصورة المذكورة، وإنما ذكرت في معرض الإشارة إليه فالتمثيل للعموم بفرد من أفراده يزيده بيانا ولا يخصصه، كما قرر أهل الأصول، والمنع من الفضل الذي لا يتأذى المعطي من بذله مئنة من خسة النفس وشحها، فلا تجود بالفضل فكيف إذا سئلت ما فوقه، فـ:

ليس العطاء من الفضول سماحة ******* حتى تجود وما لديك قليل

وليست مرتبة السماحة بسلعة مبذولة لكل مدع بل لا يقدر على دفع ثمنها إلا أصحاب النفوس الكبيرة، ولذلك كان الشح مانعا رئيسا من موانع الرياسة، فـ: "أَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ بَلْ سَيِّدُكُمُ الْأَبْيَضُ الْجَعْدُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ"، وبذلك الوصف المرذول يظهر الفارق بين العبد الذي جبل على الشح: (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ)، والرب المعبود، جل وعلا، فـ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، فأباح كل الطيبات تملكا وانتفاعا فلا يتأذى، جل وعلا، كما يتأذى البشر، من كثرة السائلين وكثرة الأعطيات، بل يغضب على من ترك سؤله ولم يطمع في فضله من دين أو دنيا، في الأولى أو في الآخرة، وبهذه الآية استدل من استدل من أهل الأصول على أن الأصل في الأشياء: الإباحة، فذلك لازم غنى الرب، جل وعلا، فهو الغني الذي لا يخشى ما يخشاه البشر من الفاقة، بل لم يخش أنبياؤه، عليهم السلام، الفقر فأعطوا عطاء من لا يخشى الفاقة، فكيف بخالقهم ومرسلهم، جل وعلا، فوصف الغنى والكرم ثابت له من باب أولى.

ورجل حلف على سلعة بعد العصر كاذباً فصدقه كاذباً واشتراها: فذلك الصنف الثاني الذي يقسم الأيمان المغلظة كاليمين بعد العصر، فذلك وقت تغلظ فيه اليمين ويعظم جرم صاحبها إن كان كاذبا، ولذلك قيد اليمين في آية الشهادة حال حضور الموت بها، فـ: (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ)، فـ: "أل" في الصلاة عهدية ذهنية تشير إلى معهود بعينه هو صلاة العصر، فاليمين بعدها، كما تقدم، غليظة، وذلك مما يزيد معنى الزجر عن الكذب في اليمين بإيقاعها في أوقات تعظم فيها الجناية إن كان الحالف كاذبا، واليمين الغموس التي تنفق بها السلع من الكبائر التي تغمس صاحبها في النار غمسا، فوصفها من قبيل وصف السبب بمسبَّبه الذي ينشأ منه، فذلك عند من يقول بالمجاز من قبيل مجاز الإسناد، فأسند فعل الغمس إليها إذ هي سببه، والفاعل حقيقة هو الرب الجليل، جل وعلا، وأجاب من أنكر المجاز بأن نسبة المسبّب إلى سببه مما عرفته العرب في كلامها، فنسبة التسبب غير نسبة الخلق، فالماء،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير