تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

على سبيل المثال، سبب الإنبات بما أودع الرب، جل وعلا، فيه من القوى المؤثرة، فتلك نسبة، ولا يكون إنبات إلا بإذن الرب الخالق، جل وعلا، فتلك نسبة ثانية، فيخلق الرب، جل وعلا، بالسبب ما شاء كيف شاء متى شاء، وليس للسبب فعل مستقل، وإن كان له فعل مؤثر، فلا ينفذ تأثيره إلا بإذن الرب القدير الحكيم جل وعلا.

ويقال هنا، أيضا، والله أعلم، بأن ذكر صورة من صور اليمين الكاذبة وهي اليمين المغلظة بعد صلاة العصر لا يعني قصر الوعيد عليها بل هي آكد صور اليمين دخولا في الحكم لغلظها، ولا يمنع ذلك من دخول بقية صور اليمين الغموس التي تستقطع بها الحقوق وتنفق بها السلع في حكم الوعيد.

ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه وفى، وإن لم يعطه لم يف له: فأجمل صورة البيعة المذمومة فلا يبايعه إلا للدنيا، فذلك من القصر الحقيقي بأقوى أساليب القصر، فبيعته قد تمحضت للدنيا فهي معقد ولائه وبرائه، فعليها يوالي وعليها يعادي، ولها يرضى ويسخط، فلا تتحرك نفسه إلا طلبا لها وإن ضاع أمر الديانة، فلا يعنيه أن يلي أمره من يصلح أمر قلبه بتعظيم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، فيحكم فيه بحكم الوحي الشارع، فلا صلاح للقلوب والأبدان إلا بذلك، فحكم الشريعة أمان للقلوب من الفساد والأبدان من الإتلاف إلا بحق لا إله إلا الله، فـ: "لا يحل دم امرئ مسلم إلاَّ بإحدى ثلاث: الثّيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"، فلا يعنيه كل ذلك، وإنما يعنيه أن يلي أمره من يصلح أمر بطنه وفرجه!، ولو بمحرم فاللذة العاجلة وإن تبعها من فساد القلب وتلف البدن ما تبعها هي معدن بيعته، ففساد تصوره في إدراك ما تلتذ به النفس مؤد لا محالة إلى فساد حكمه في تناول ما يحرم منها وبيعة من يأسر إرادته بدنيا، ولو مباحة، فكيف إذا كانت محرمة؟!، فبيان ما أجمل من تلك البيعة الخاسرة: فإن أعطاه وفي، وإن لم يعطه لم يف له: فصدر بالمنطوق في معرض الإثبات، ثم أتى بالمفهوم، وإن علم من الإثبات المتقدم، ولكنه إمعانا في البيان في معرض الذم للمبايع لأجل الدنيا والتحذير لغيره، أتى بما يدركه العقل بالنظر في دلالة الإثبات المتقدم، فإنه إن رضي بعطاء الدنيا فلا بد أن يسخط حال منعه، وتلك حال كثير منا لا سيما في السنوات الأخيرة التي اشتدت فيها الأزمة الاقتصادية الراهنة فلم يظهر التململ والتضجر بمثل هذه الصورة إلا بعد أن عزت الأقوات وشحت الأموال، وتلك مصيبة لا ينكرها أحد، ولكن المصيبة العظمى أن يكون ذلك هو دافع التغيير الوحيد، فلم تغضب النفوس كل هذا الغضب أو بعضه، والدين قد انتهكت أحكامه وغيبت جملة عظيمة من شرائعه، فقد كانت الحال في السنين الماضية: شديدة، ولكنها كانت محتملة فسكنت النفوس إلى دنيا رديئة، فليتها سكنت إلى دنيا ذات شأن، إن كان للدنيا شأن ابتداء، فلم تنل حظها من طيب طعام أو شراب أو لباس أو مسكن، ومع ذلك رضيت باللعاعة وتلهت بها، فلما عوقبت بالحرمان منها، مع كونها ردية تأنف منها نفوس كثير من أهل الترف والنعمة في بلاد الشرق والغرب!، لما عوقبت بالحرمان منها لهوان الشريعة عليها، ثارت وتململت وضجت تطالب بالتغيير، وكأن الحال قبل ذلك كانت مرضية دينا أو دنيا!، فكيف يكون تغيير هذا معدنه؟!، وهل يرجى منه خير في دين أو دنيا إن صدر عن رغبة جامحة في دنيا أفضل وإن ضاع الدين الذي لا يلتفت إليه غالبا حال الجوع والخوف، وذلك أمر بدهي، ولكن الأعظم منه، كما تقدم، الغفلة عن موطن الداء الرئيس فـ: (لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، فقصر الأمر على أعراض المرض من عقوبات كونية بتضييق الأرزاق ومحق البركات، وشغل النفس بإزالتها أو تخفيف حدتها، وذلك أمر مراد شرعا فلا يحسن الجائع أن يقضي بين متخاصمين قياسا على الغضبان فالذهن قد انشغل بتحصيل ما تحفظ به النفس من التلف وتلك حال مضطربة لا يظن بصاحبها سداد في الحكم على الأشياء حكما صحيحا يصدر عن نظر صريح في نصوص النبوات، ومع ذلك فإن شغل النفس بإزالتها أو تخفيف حدتها مسكن عارض سرعان ما يزول أثره فمعدن الداء لا زال مستقرا في الجسد، فكيف يرجى الشفاء التام من داء عضال بمسكن موضعي مؤقت فمفعوله محدود الأثر والزمن؟!، والعلاج لا بد أن يعم الظاهر تخفيفا للألم والباطن استئصالا لسببه الرئيس، فلا يغني أحدهما عن الآخر.

وليس في الحديث دلالة حصر فليس ذكر الثلاثة فيه بناف دخول غيرهم في الوعيد المنصوص عليه، فذلك من قبيل إثبات تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا: لله، عز وجل، فلا يعني ذلك انتفاء غيرها عنه، بل: "أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ"، فالحصر باعتبار القيد فمن أحصاها دخل الجنة، ولا يمنع ذلك القيد، كما تقدم، من وجود أسماء غيرها، فذلك من جنس قول القائل: عندي مائة درهم للصدقة، فلا يمنع ذلك أن عنده دراهم غيرها بل أضعافها.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير