تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

التي تصح بها العقود الباطنة والأعمال الظاهرة، واصدع في كل مجتمع وناد، فليست الرسالة لأمة بعينها، فذلك الإطلاق مئنة من عموم الرسالة الخاتمة، وكل ذلك مما نسخ به البيان الخاص في قوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)، فتلك، بداهة، أولى مراتب الدعوة، فلا يدعى البعيد قبل القريب، ولا تمنع دعوة القريب من دعوة البعيد، بل الجمع بينهما ممكن مقدور، فالتكليف به جائز، عقلا، فلا يكون، على هذا الوجه، نسخ لآية البيان الخاص، بل ذلك من الزيادة على النص، فلا يلزم من الزيادة إبطال المزيد عليه، فزيادة الأمر بالصلاة على الأمر بالزكاة، على سبيل المثال، لا يلزم منها إبطال حكم المزيد عليه، بل يعم الأمر كليهما، وزيادة وجوب الظهر على وجوب العصر، لا يلزم منها إبطال وجوب العصر، بل كلاهما فرض، فكذلك وجوب البيان العام فإنه لا يبطل وجوب البيان الخاص، بل كلاهما واجب بالنظر في أدلة الباب: جمعا واستقصاء لأركان صورة الاستدلال فلا ينظر إلى ركن دون آخر، بل ينظر إلى الأدلة جميعا: رواية لألفاظها ودراية بصحيحها من ضعيفها، لتكتمل صورة الاستدلال: استنباطا لأحكامها، فلا يكون استدلال صحيح إلا بدليل صحيح ينظر فيه بآلة عقلية صريحة.

والشاهد أن التبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد أقسم بربه، جل وعلا، على جهة التعريف بالموصول، فعلق القسم على الموصوف بالمعنى الذي اشتقت منه جملة الصلة، وهو ملك نفس محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: خلقا وتدبيرا، فنفسه بيد خالقه، جل وعلا، الذي قدرها في الغيب، وبرأها في الشهادة، وصورها على أكمل هيئة باطنة وظاهرة، فنفسه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكمل نفس مخلوقة، ونفسه بيد خالقه، جل وعلا، تدبيرا عاما بإجراء أسباب الحياة التي تشترك فيها عامة النفوس، وتدبيرا خاصا بالحفظ والرعاية فذلك مما اختص به الرب، جل وعلا، المؤمنين: أنبياء وصالحين، وللأنبياء منه أعظم قدر، وللنبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم منه حظ ليس لغيره من الأنبياء عليهم السلام، فـ: (اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)، فالتزم الأمر الشرعي بالصبر لحكم الرب، جل وعلا، فإنك محفوظ بأمره الكوني، فـ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، فبلغ الأمر الشرعي فإنك معصوم بالأمر الكوني حال البلاغ، وإن جرى عليك ما يجري على سائر البشر من أعراض المرض والموت ...... إلخ.

واليد، على هذا الوجه، قد فسرت بلازمها، لقرينة السياق، فملك الأنفس مئنة من كمال قدرة الرب، جل وعلا، خلقا وتدبيرا، فهي: صفة ذات خبرية، فذلك الأصل، ولها من اللوازم المعنوية ما لا يمتنع مع إثباته: إثبات الأصل، فلا تنفى الصفة بإرادة لازمها، وإنما يثبت اللازم تبعا للسياق الذي وردت فيه، ويثبت الأصل على الوجه اللائق بجلال الرب، جل وعلا، فيجمع في الإثبات بين الأصل والفرع، أو الملزوم واللازم، فذلك فرقان بين طريقة أهل السنة في هذا الباب الجليل، فلا يقدحون في الأصل بفرعه، فالتفسير باللازم لقرينة سياقية صحيحة لا يلزم منه إبطال الملزوم، وطريقة المتكلمين الذين يثبتون اللازم ويتذرعون به إلى نفي الملزوم فرارا من التشبيه الناشئ من قياس عقلي فاسد قيست فيه أوصاف الرب، جل وعلا، على أوصاف خلقه، وليس ذلك بلازم ليلتزم، بل هو ممتنع شرعا وعقلا، فوقوع الاشتراك في المعاني الذهنية بين صفات الرب، جل وعلا، وصفات المخلوق، لا يلزم منها وقوع الاشتراك في الحقائق الخارجية.

والشاهد أن: القسم، على هذا الوجه، مئنة من عموم قدرة الرب، جل وعلا، وذلك آكد في تقرير معنى تكليفي إلزامي كوجوب الإيمان بالرسالة الخاتمة تصديقا وامتثالا، ولعل إظهار اسمه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الإمعان في التمهيد إلى ما سيأتي من وجوب الإيمان به، فذلك أقوى في الدلالة على ذلك من قوله: والذي نفسي بيده.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير