تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم جاء ذكر المقسم عليه بعد تلك التوطئة فـ: لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ: فلا يسمع به صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحد، فالعموم قد ثبت في موضعين:

بتسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل، (لا يسمع)، وهو مخصوص بدلالة العقل بـ: السمع الذي تقوم به الحجة الرسالية، فهي في حق اليهود والنصارى آكد، لما عندهم من علم الكتاب الأول وفيه من أخبار النبوات، والبشارة بالنبوة الخاتمة، وعلاماتها ودلائلها وأوصاف حاملها صلى الله عليه وعلى آله وسلم الباطنة والظاهرة، فيه من كل ذلك ما يجعل الأمر بالإيمان بها في حقهم آكد، وإن لم يختص بهم، فالرسالة عامة في حق غيرهم، فذكرهم في هذا السياق ليس بمخرج لغيرهم، بل هو جار مجرى التمثيل للعموم بذكر بعض أفراده تنويها بشأنهم، لما لهم من الخصائص العلمية التي ليست لغيرهم فليس من علم جنس النبوات فهو لها مثبت، وبيده بقايا منها وإن وقع فيها من التبديل ما وقع، فكثير منها، مع ذلك، لم يبدل بما في ذلك: البشارة بالنبوة الخاتمة رسالة ورسولا، بأوصاف ظاهرة لا إجمال فيها يقع به غموض أو إلباس، فليس من ذلك حاله كحال من لم يعلم بالنبوات ابتداء، أو ليس له من العلم بها حظ يضارع حظ أهل الكتاب، فهم قبل البعثة أعظم البشر حظا في هذا الباب، فكان توجه الخطاب إليهم آكد، وإن لم يلزم منه، كما تقدم، انتفاء توجهه إلى غيرهم، بل يعمهم ويعم كل مكلف صحيح الآلة التكليفية فالاستطاعة الشرعية التي يتعلق بها التكليف في حقه حاصلة، فهذا عموم أول.

وأما العموم الثاني فهو أظهر بتسلط النفي على النكرة: "أحد": فذلك من صور العموم القياسية في لسان العرب، وخصت النكرة بوصف: "من هذه الأمة": فـ: "أل" في الأمة: عهدية ذهنية تشير إلى معهود بعينه هو: أمة الدعوة، فليس اليهود والنصارى من أمة الإجابة بداهة، إذ ليسوا بمؤمنين بالرسالة فذلك وصف أمة الإجابة، ثم جاء التقييد بالبدل: "يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ": لما تقدم من قرينة التمثيل للعموم بآكد أفراده، فتعلق الحكم بهم آكد من تعلقه بغيرهم فليس من علم كمن جهل، فلا يسمع به صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحد من أمة الإجابة يهوديا أو نصرانيا أو صاحب ديانة أرضية ...... إلخ، ثم يموت ولم يؤمن برسالته، إيمانا تحصل به النجاة، فلا ينفع الإيمان بعد المعاينة، ولا ينفع الإيمان بعد طلوع الشمس من مغربها فـ: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)، فلا يسمع بالرسالة الخاتمة أحد ثم يكفر بها تكذيبا، أو إعراضا، أو عنادا واستكبارا: إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، فذلك من القصر بأقوى أساليبه: النفي والاستثناء، إمعانا في تقرير المعنى، وهو قصر حقيقي، فمن بلغته الحجة الرسالية على وجه تقوم به بحصول البيان الذي يزول به كل إجمال وتندفع به كل شبهة، مع انتفاء الإعراض عن طلب الحق، فليست تلك بشبهة معتبرة يعذر صاحبها، فالتولي والاستكبار عن طلب الحق، أو التلهي عنه بشهوة أو عرض من أعراض الدنيا، مع كونه أعظم القضايا المصيرية، فقضية النجاة بعد الموت بحصول السعادة الآبدية مطلوب كل العقلاء من سائر الأمم ولو لم يكن لها من النبوة حظ، كل ذلك مما لا يعذر صاحبه فقد جبل على طلب الحق، فنفسه حساسة متحركة إليه، لا تطمئن إلا بالركون إليه، والرجوع إلى الفطرة الأولى التي لا يزيل كدرها ويفصل أخبارها وأحكامها، إلا الوحي المنزل فهو الفيصل فيما يقع بين البشر من نزاع في هذا الشأن الجليل، فكلٌ، كما تقدم، يروم النجاة، ولكن لكل عقله الذي يتصور أسباب النجاة تصورا يباين تصور غيره، فلا يفصل النزاع بين عقول البشر في تعيين أسباب النجاة إلا وحي من علم أحوال الخلق، وما يصلحهم فأمرهم به، وما يفسدهم فنهاهم عنه، على لسان أنبيائه: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، فالنبوة هي معدن النجاة، ولذلك علق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الهلاك على انتفاء الإيمان بها، فذلك منطوق يفيد بمفهومه: النجاة بثبوت الإيمان بها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير