تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والشاهد أنه بعد التوطئة بآيات الكون، جاء الإنشاء بالنهي والأمر: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ: على جهة الفصل فلا عاطف لشبه كمال الاتصال بينهما، فالأول بمنزلة العلة أو السبب، والثاني بمنزلة المعلول أو النتيجة، فالتلازم بينهما وثيق فالانتقال من الملزوم الكوني إلى اللازم الشرعي لا يستدعي وصلا بعاطف، فـ:

فذلك من طباق السلب فـ: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ: نفيا عاما تسلطت فيه الأداة على المصدر الكامن في الفعل فأفاد ذلك العموم الذي أكد بتكرار أداة النفي وتكرار اللام في: "للقمر"، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ: إثباتا، فذلك وجه السلب في الطباق بتضاد النفي والإثبات، فنفي المعنى ثم أثبت، لاختلاف جهة التقييد، فالمنهي عنه، غير المأمور به، وإن كان الفعل واحدا، فذلك من وحدة النوع التي لا يلزم منها وحدة الأفراد، بل قد يرد القيد الحاظر في فرد كالسجود لغير الله، جل وعلا، ويرد القيد المبيح بل الموجب في فرد آخر كالسجود لله جل وعلا.

وقد نبه بالشمس والقمر على بقية الأجرام العلوية، ونبه بالأجرام العلوية على الأجرام السفلية من باب أولى، فالأعلى أشرف قدرا، فإذا امتنع السجود له، امتنع للأدنى بداهة.

قال في "نواقض الإيمان القولية والفعلية" نقلا عن "الدين الخالص":

"قال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية: إن من أراد أن يكون عبداً لله خالصاً، فلا يسجد إلا له سبحانه، ولا يسجد للشمس والقمر، نبه بهما على غيرهما من المخلوق العلوي، فالسفلي من الأحجار والأشجار والضرائح ونحوها بالأولى. وقد دلت هذه الآية على أن ديننا، هو أن السجود حق الخالق، فلا يسجد لمخلوق أصلاً كائناً ما كان، فإن المخلوقية يتساوى فيها الشمس والقمر، والولي والنبي، والحجر والمدر، والشجر ونحوها". اهـ

وتعلق الأمر بالسجود بوصف الألوهية الذي اشتق منه اسم: "الله" على القول باشتقاقه، والخلاف في هذه المسألة معروف، فوجه الاشتقاق في هذا الباب: الاشتقاق اللغوي الاصطلاحي الذي ترد فيه المشتقات إلى أصولها اللفظية كرد اسم الفاعل المشتق: ساجد، إلى مادة: سجد التي اشتق أو أخذ منها، فلا يلزم منه الحدوث الذي احترز منه من نفى الاشتقاق في هذا الباب. وتعلق السجود، وهو أحد صور التأله الظاهر بالنظر إلى معناه الاصطلاحي الذي يدل على الخضوع بوضع الجبهة على الأرض، أو الانحناء على جهة التعظيم، فذلك، أيضا، من السجود، وإن لم تكن هيئته هيئة السجود المعهود في الصلاة، وعليه حمل ابن القيم، رحمه الله، السجود في قوله تعالى: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ)، فلا يتصور دخول حال وضع الجبهة على الأرض، وإنما يتصور حال الانحناء تعظيما للرب، جل وعلا، وخضوعا وشكرانا له أن نصرهم وكتب لهم الظفر على عدوهم، وهو، أيضا، أحد صور التأله الباطن بالنظر إلى معناه الكلي المطلق في الذهن، فمادة سجد مئنة من الخضوع والتذلل، وتلك معان تقوم أول ما تقوم بالباطن، ثم تظهر آثارها لزوما على الظاهر، على ما اطرد بيانه من التلازم الوثيق بين الباطن بعلومه وإراداته، والظاهر بأقواله وحركاته، فالباطن معدن العلوم ومنشأ الإرادات التي تقع بها الأقوال والأفعال مصدقة، كما في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "النفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"، فصدق الظاهر ما قام بالنفس من الأماني الباطنة إن صارت جزما، وكذبها إن كانت هما، فالخاطرة ترد على كل قلب، ولا يلزم من ورودها: أثر ظاهر على الجوارح، بل لا حساب عليها حتي تصير هما جازما، فيظهر أثرها لزوما على الظاهر إن لم يقم به مانع. فتعلق السجود وهو أحد صور التأله، كما تقدم، تعلقه باسم: "الله": ملاءمة بين فعل العبد تألها، ووصف الرب، جل وعلا، ألوهية واجبة الامتثال بتصديق الخبر وامتثال الأمر والنهي.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير