تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما غاية الحب مع غاية الذل هذا تمام العبودية وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه به في خالص حقه وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم وأفسدتها عليهم واجتالتهم عنها ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرهم وعقولهم فازدادوا بذلك نورا على نور يهدي الله لنوره من يشاء إذا عرف هذا فمن خصائص الإلهية السجود فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به ومنها التوكل فمن توكل على غيره فقد شبهه به ومنها التوبة فمن تاب لغيره فقد شبهه به ومنها الحلف باسمه تعظيما وإجلالا فمن حلف بغيره فقد شبهه به". اهـ

وذلك أمر قد ظهر جليا في دين النصارى المبدل، ففي زماننا يسجد لرءوسهم، كما نشاهد في صور تنقل هيئات مشينة من الخضوع المهين لكرامة أي آدمي، فضلا عن أن يكون ذا ديانة، بزعمه، فيرتكب باسم الديانة، عين ما ينقض به الديانة!، فقد ترأس ذلك الضال باسم النيابة عن المسيح، أو الإله، فهو نائبه في الأرض!، والوكيل ينزل منزلة الأصيل، فله من حقوق التشريع والغفران والتوبة ..... إلخ ما للرب، جل وعلا، وتلك صورة فاحشة من صور الشرك في الربوبية: فلا يغفر الذنوب إلا الله جل وعلا، وإن أبى أصحاب كراسي وصكوك الغفران، والشرك في الألوهية فلا سجود إلا لله، جل وعلا، ولا ينفكان عن شرك في التصور العلمي لأسماء الرب، جل وعلا، وصفاته، جفاء في حق المعبود بحق، وغلوا في حق معبود أرضي، يترأس طائفة من الجهال برسم الطغيان الروحي والإرهاب الفكري والجسدي لكل من يخرج عن أمره، فتصيبه الفتنة أو العذاب الأليم!، فلو علم أولئك حقيقة وصف الرب، جل وعلا، وحقيقة وصف من اتخذوه نائبا بلسان المقال، وبديلا بلسان الحال فماذا بقي لله، عز وجل، بعد التشريع والمغفرة بل والسجود الظاهر بين يديه، وإنما يؤتى المرء من قبل جهله، فهو منشأ التعصب الأعمى وقرينه، فلا يكون تعصب لمعبود باطل إلا فرعا عن جهل مركب، فيجهل صاحبه وصف الرب، بل يتصوره على خلاف ما أخبرت به الرسل، ويجهل من وجه آخر حقيقة معبوده الباطل فينسب له ما ليس له من أوصاف الربوبية تأثيرا فذلك من صور الشرك في الأمر الكوني كما يقع ممن يعتقد الضر والنفع في الأموات من الطواغيت وتشريعا فذلك من صور الشرك في الأمر الشرعي كما يقع ممن يغلو في حق الأحياء من الطواغيت، كما تقدم، وذلك ذريعة إلى اتخاذه إلها، فجهله مركب في المعبود الحق والمعبود الباطل!، فأي جهل أعظم من ذلك؟ ّ!، وما ذلك إلا لتنكب طريق النبوات.

وقد انتقل ذلك الغلو المقيت إلى من سار على طريقة أولئك ممن ينتسب إلى الملة الخاتمة، وأمرهم ظاهر في كثير من الأمصار التي تظهر فيها أعلام البدعة وتندرس فيها آثار السنة، كما أثر عن مالك رحمه الله.

ثم جاء التذييل بالشرط على جهة الإلهاب على حد: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ: إن كنت رجلا فافعل، فإن كنتم، كما تزعمون، تعبدون الله، عز وجل، بالتوسل والاستشفاع بتلك الكائنات المخلوقة، كما هي شبهتكم الردية في كل عصر ومصر يظهر فيه الشرك بالغلو في المخلوقات حية كانت أو جامدة، إن كنتم كذلك فاسجدوا له، وحده، فهو الذي أمركم بذلك، ونهاكم عن السجود لغيره، ولو تعظيما، فذلك من الشرع المنسوخ، كما أشار إلى ذلك جملة من المفسرين كابن عطية وابن كثير، رحمهما الله، في تفسير قوله تعالى: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا)، فكانت تلك، كما يقول ابن عطية رحمه الله، صورة تحية الملوك والعظماء في زمانهم، فهو، كما يقول ابن كثير رحمه الله، مما كان سائغا في شرائعهم فلم يزل جائزا من لدن شريعة آدم إلى شريعة عيسى، عليهما السلام، ثم حرم في هذه الملة، فنسخ الحكم بجوازه سدا لذريعة الغلو في المخلوق فهو، بدوره ذريعة إلى الشرك بصرف ما لا يصرف إلا لله، عز وجل، من صور التأله الظاهر أو الباطن إليه.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير