تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ إذَا كَانَتْ لَك حَاجَةٌ إلَى مَلِكٍ تَوَسَّلْت إلَيْهِ بِأَعْوَانِهِ فَهَكَذَا يُتَوَسَّلُ إلَيْهِ بِالشُّيُوخِ. وَهَذَا كَلَامُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ فَإِنَّ الْمَلِكَ لَا يَعْلَمُ حَوَائِجَ رَعِيَّتِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا وَحْدَهُ وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ إلَّا لِغَرَضِ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِكُلِّ شَيْءٍ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فَالْأَسْبَابُ مِنْهُ وَإِلَيْهِ وَمَا مِنْ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ إلَّا دَائِرٌ مَوْقُوفٌ عَلَى أَسْبَابٍ أُخْرَى وَلَهُ مُعَارَضَاتٌ. فَالنَّارُ لَا تُحْرِقُ إلَّا إذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا فَلَا تُحْرِقُ السمندل وَإِذَا شَاءَ اللَّهُ مَنَعَ أَثَرَهَا كَمَا فُعِلَ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمَّا مَشِيئَةُ الرَّبِّ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ وَلَا مَانِعَ لَهَا بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَرْحَمُ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا: يُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيَرْحَمُهُمْ وَيَكْشِفُ ضُرَّهُمْ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمْ وَافْتِقَارِهِمْ إلَيْهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. فَنَفَى الرَّبُّ هَذَا كُلَّهُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الشَّفَاعَةُ. فَقَالَ: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَالَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} فَهُوَ الَّذِي يَأْذَنُ فِي الشَّفَاعَةِ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُهَا فَالْجَمِيعُ مِنْهُ وَحْدَهُ وَكُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَعْظَمَ إخْلَاصًا: كَانَتْ شَفَاعَةُ الرَّسُولِ أَقْرَبَ إلَيْهِ". اهـ

فذلك مما باين فيه الملك، جل وعلا، ملوك الدنيا، فيعلم ما لا يعلمون، ويدرك من حاجات عباده ما لا يدركون، فليس له حاجة في شفيع يرفعها أو بليغ يشرحها، فهو الخالق للألسن، العليم بلغاتها ولهجاتها، السميع لألفاظها وكلماتها، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا يعجزه علم ما يتردد على ألسنة عباده من الأقوال وما يعتمل في صدوهم من التصورات والإرادات فهي منشأ ما يجري على ظاهرهم قولا باللسان وعملا بالأركان، فالظاهر، كما تقدم مرارا، تأويل ما يقوم بالباطن، وإن اجتهد صاحبه في كتمانه، فـ:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة ******* وإن خالها تخفى على الناس تعلم.

فقياس حال الملك، جل وعلا، على حال ملوك الدنيا: قياس تشبيه باطل، فالتسوية بين الموصوف بالكمال المطلق أولا وآخرا، والموصوف بالنقص المطلق جبلة فلا ينفك بشر، وإن عظم قدره وعلا شأنه، عما يعتري عامة البشر من عوارض النقص الجبلي، التسوية بينهما، في هذا الباب، بتجويز اتخاذ الوسائط والشفعاء إليه قياسا على الوسائط والشفعاء إلى ملوك الدنيا، تسوية بين متباينين، وذلك من الفساد العقلي بمكان، فهو من الأحكام الضرورية التي أجمع على صحتها عامة العقلاء من كل الأمم.

فالرب، جل وعلا: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ)، وذلك مما باينت فيه الملة الخاتمة سائر الملل، فليس فيها ما في بقية الملل، من رءوس ضلالة دعوا الناس إلى اتخاذهم وسائط إلى الرب، جل وعلا، فلا يغفر الذنب إلا بوساطاتهم المزعومة، فليس ثم طريق إلى النجاة إلا هم!، فصاروا طرقا لا أدلاء، وذلك من صور الطغيان التي تصير البشر آلهة تعبد، فبيدها المغفرة والحرمان!، فمن طردته فلن يدخل، ومن قبلته فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون!. فالقصر في الآية بتعريف الجزأين على تقدير مضمر يبتدأ به الكلام، فـ: هو غافر الذنب، فالإضافة حقيقية لا لفظية، لثبوت الوصف للرب، جل وعلا، على جهة الديمومة، وإن حدثت أفراده بتجدد مغفرته وتوبته على العصاة، فتلك دلالة اسم الفاعل الذي يدل على الحدوث والتجدد، فالوصف ثابت له، جل وعلا، على جهة الديمومة بالنظر إلى نوعه، وعلى جهة الحدوث والتجدد بالنظر إلى آحاده.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير