تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

صلاح يلائم الفطرة الأولى، وإما إلى فساد بما يعتري الفطرة الأولى من الأكدار، فـ: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ"، فيكتسب الكمال العلمي بتوارد المعلومات على مداركه المحسوسة والمعقولة، فتلك حاله من نقصان مطلق إلى كمال مقيد، فلا ينفك عن النقصان، فأفعاله باكتساب العلوم هي معدن كماله الطارئ، وأما حال الرب، جل وعلا، فكمال علمي أول أزلي، كما تقدم، فكماله هو معدن أفعاله التي لا تكون إلا على وجه الكمال المطلق اللائق بجلاله، فلا يعتريها النقص أو العيب، فالوصف الكامل لا يصدر عنه إلا فعل كامل، ووصف المخلوق، في المقابل، لا ينفك عن النقص، وإن عظم، فلا يصدر عنه إلا فعل ناقص، فباين الخالق، جل وعلا، المخلوق، في الصفات والأفعال، فكمال في حق المخلوق، جل وعلا، ونقصان في حق المخلوق، ولذلك كان علمه، جل وعلا، مستغرقا للغيوب الماضية والحالية والتالية، فاستغرق علمه، جل وعلا، عموم الغيب، فـ: "أل" في: "الغيب": جنسية استغراقية، في مقابل علم المخلوق فإنه لا يعلم الغيب، فـ: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)، فذلك أقوى أساليب القصر، و: "أل" في: "الغيب" فيه، أيضا، للعموم الجنسي الاستغراقي، ومثله القصر في قوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ)، فذلك، كما تقدم، من أخص أوصاف الربوبية، فمنازعة الرب، جل وعلا، فيها، منازعة له في منصب ربوبيته إيجادا وتدبيرا بالعلم الكوني، فالكلمات الكونية النافذة من جملته، ووحيا بالعلم الشرعي، فالكلمات الشرعية الحاكمة من جملته، ولذلك كان كل طريق يسلكه المخلوق لمعرفة ما خفي من الغيوب: طريق ضلالة، يقول صاحب "الأضواء" رحمه الله: "لما جاء القرآن العظيم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله كان جميع الطرق التي يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب غير الوحي من الضلال المبين، وبعض منها يكون كفراً.

ولذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً"، ولا خلاف بين العلماء في منع العيافة والكهانة والعرافة، والطرق والزجر، والنجوم وكل ذلك يدخل في الكهانة، لأنها تشمل جميع أنواع ادعاء الإطلاع على علم الغيب"، بل قد يصل ذلك إلى حد الكفر، كما ذكر، رحمه الله، فادعاء علم الغيب المطلق الذي لا يعلمه إلا الله، جل وعلا، ناقض من نواقض الإيمان لما يلزم منه من إثبات شريك للرب، جل وعلا، في صفة من صفاته الذاتية المعنوية وهي: صفة العلم. فمنه، كما تقدم، العلم الأزلي، ومنه العلم الذي تتجدد آحاده بتجدد تأويل قدره الكوني الأول في عالم الشهادة، فيتعلق به علم الرب، جل وعلا، إحصاء له حال وقوعه، كما تعلق به تقديرا في الأزل، ثم كتابة كونية نافذة قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فيعلم الشيء قبل وقوعه فهو مقدره، ويعلم الشيء حال وقوعه فهو موجده، ويعلم الشيء بعد وقوعه، فهو محصيه: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، فالعلم الرباني يتعلق بالمربوب الحادث من أكثر من وجه، فيتعلق به من وجوه: التقدير، ثم الإيجاد إذا شاء، فيحدث من أمره التكويني النافذ ما شاء، ثم الإحصاء فبه تظهر آثار حكمته فيجازى العباد على أفعالهم، ثوابا على الإحسان، وعقابا على الإساءة، فلكل فعل ما يلائمه من الجزاء، وذلك من دلائل الحكمة بوضع الشيء في موضعه الملائم، فوضع، جل وعلا، مادة الصلاح في المحال الملائمة لها في دار الابتلاء، ثم وضع الثواب لأصحابها في دار الجزاء، وفي المقابل: وضع، تبارك وتعالى، مادة الفساد في المحال الملائمة لها، ثم وضع العقاب لأصحابها، فالجزاء تأويل الفعل ثوابا أو عقابا، كما تقدم، فحصل بتلك الملاءمة بين حال المكلف في الدارين: إحسانا في الأولى وثوابا في الآخرة، أو إساءة فعقابا، حصل بها البيان الجلي لوصف الحكمة الرباني، ولذلك صح من

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير