تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

من هو جائع أو بحضرته طعام، أو تاقت نفسه إلى جماع، أو كان حاقنا أو حاقبا ...... إلخ من الأعراض الكونية التي لا ينفك عنها بدن، فهي مركبة في جبلته الجسدية تركيب الفطرة الإيمانية في جبلته الروحية، وبها حصل التمايز بين الرب، جل وعلا، والعبد المربوب، فالأول غني بذاته وصفاته، فلا يتصف بالنقص أزلا أو أبدا، فلم يزل متصفا بالكمال المطلق أزلا، وسيزال متصفا به أبدا، والثاني فقير بذاته، فلا يحصل له الغنى المؤقت إلا بسبب خارج عنه، سواء أكان شرعيا تستقيم به أمور معاده، أو كونيا تستقيم به أمور معاشه، فليس غناه ذاتيا كغنى ربه، جل وعلا، بل هو فرع عن غناه، فالرب، جل وعلا، الغني بذاته عن الأسباب فذلك من وصفه اللازم، المغني لغيره بما يجري من أسباب الشرع والكون، فـ: "اللهم منزل الكتاب"، فذلك من الإجراء الشرعي لمادة غنى الأرواح، "مجري السحاب": فذلك من الإجراء الكوني لمادة غنى الأبدان، فالماء الذي يحمله السحاب معدن الحياة النبانية النامية فهي حياة الزرع والثمر، والحياة الحيوانية الحساسة المتحركة فهي حياة الدواب وبني البشر، فهو، جل وعلا، المغني لغيره فذلك من وصفه الفعلي المتعدي إلى غيره بالإحسان شرعا بالوحي وكونا بالرزق، كما تقدم، فانظر إلى آثار رحمته الكونية أن خلق فسوى، فهو: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)، فهدى كل كائن إلى مباشرة ما يصلح به بدنه، فذلك من فضله على عموم البرية مؤمنها وكافرها، ناطقها وأعجميها، وهدى المكلفين منهم إلى أسباب النجاة من الإيمان بوحي السماء والاستمساك به فهو طوق النجاة في دار الفتن والابتلاءات التي ترد على القلوب والأبدان، فتبتلى القلوب بجملة من الشبهات، وتبتلى الأبدان بجملة من الشهوات، وجملة من الآلام، ولا يصمد لها إلا من عظم زاده من الوحي، فبقدره يكون الصبر والاحتساب، لا سيما إن كانت تلك الآلام في سبيل الله، دفعا عن الديانة، أو فتنة فيها يصمد صاحبها لترغيب وترهيب أعدائه، فيمده، جل وعلا، بمدد من الشرع والكون، تسمو به نفسه فوق الآلام، فهي رفعة في درجته، فما كان ليبلغ تلك المنزلة الشريفة عند باري الخليقة، جل وعلا، إلا بورود هذا الابتلاء تمحيصا لنفسه العظيمة ونفيا للخبث من معدن قلبه الرفيع، فلا يطهر إلا بكير الابتلاء، ولا يصلح لمجاورة الرب، جل وعلا، إلا بعد أن يخلص له، فالرب، جل وعلا، "طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا"، فله، جل وعلا، الكمال المطلق، فلا يجاوره إلا الكامل، ولا يكون كمال إلا بتنوع صور الابتلاء، بالسعة تارة، فواجبها الشكر، وبالضيق أخرى، فواجبها الصبر، فتلك هداية البيان لطريق النجاة وأسبابها المبذولة على لسان الرسل عليهم السلام، فـ: (لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)، وهدى من اصطفاهم فقربهم: هداية التوفيق والإلهام، فـ: (هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ)، فذلك فضله يؤتيه من يشاء، وهدى من كره انبعاثهم فثبطهم وأبعدهم من الكفار الأصليين وأتباعهم من الزنادقة والمنافقين، وما أكثرهم في زماننا!، هداهم إلى سبيل الجحيم، فذلك من عدله، جل وعلا، وحكمته أن هداهم في دار الابتلاء إلى ما يلائم محالهم الخبيثة فلا تقبل طيب القول والفعل، فليس لها إلا مثل السوء، ثم هداهم في دار الجزاء إلى ما يلائم تلك النفوس الدنسة التي لا تطهرها نيران الجحيم، فخلودهم فيها أبدي سرمدي، فـ: (أَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)، بخلاف من تدنست نفسه بأوضار معصية أو كبيرة، فلم يشأ الرب، جل وعلا، أن يغفر له، ولم يشأ أن يلهمه في الدنيا حسنات تمحوها، أو مصائب تكفرها، فمكوثه فيها مؤقت، فيخرج منها بشفاعة الشافعين، ثم بشفاعة رب العالمين جل وعلا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير