ظلم وقهر، فما نقم منهم أعداؤهم: (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)، وهل ذلك مما يوجب النقمة إلا إن كان الناقم من جند إبليس فلا يرضيه أن يسلم الناس لرب العالمين لئلا تفوته رياسته ومآكله الدنية فتعلق همته بها مئنة من دنو نفسه وضعة أصله، وتلك حال كل من تكالب على رياسة زائلة فباع من أجلها من دينه وكرامته ورجولته ما باع، وما فتنوهم إلا لأنهم آمنوا، وما قعد عن نصرتهم إلا من نافقوا، فظهرت بتلك النوازل الفواجع: معادن قلوب طوائف ثلاث: طائفة إيمان وإن كانت عاجزة فهي بإيمانها مستعلية وببذل الأسباب المشروعة لنجدة المستضعفين متوسلة، وبدعائها إلى رب الأرض والسماوات متوجهة، وطائفة كفر تفتن المؤمنين والمؤمنات فهي أمام إيمانهم عاجزة، ومقابل عزهم ذليلة خاشعة، وإن بدا أنها ظاهرة غالبة، فليست تلك إلا صحوة الاحتضار، وظلمة آخر ليل آذن بالارتحال، فهي حالكة، وعما قريب مفارقة، وطائفة نفاق ترضى بما ينزله الكفار بالمؤمنين، بل تظاهرهم بالقول والفعل، وتدعي الإيمان وهي بضده قد تلبست، فلا أقل في تلك الفواجع التي تنزل بإخواننا وأخواتنا من دعاء صادق بقلب حاضر، قد تمحض ولاءً للمؤمنين وبراءً من الكفار والمنافقين، وتلك فجائع من جنس فجائع الرندي رحمه الله:
فـ:
فجائعُ الدهر أنواعٌ مُنوَّعة ******* وللزمان مسرّاتٌ وأحزانُ.
وللحوادث سُلوان يسهلها ******* وما لما حلّ بالإسلام سُلوانُ.
ووصف من نزلت به الحاجة من المؤمنين بالأخ ترقيقا لقلب المؤمن عليه، فالأخ، إن كان في قلبه بقية مروءة وشهامة يفزع إلى نجدة إخوانه وأخواته ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ويفزع إلى ربه بالدعاء الحار استنزالا لرحماته عليهم، واستنزالا لنقماته على من ظلمهم وخذلهم من أهل الكفر والنفاق.
وكذلك الشأن في: وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: فحصلت المقابلة والمشاكلة في سياق الشرط تقريرا للمعنى، وحصل الاشتراك، أيضا، في المعنى الكلي لـ: "التفريج"، فذلك من وصف الرب، جل وعلا، الفعلي، فيشترك مع تفريج العبد لكرب أخيه، في المعنى الكلي دون الحقيقة، فليس تفريج من هو على كل شيء قدير كتفريج من لا يقدر على شيء إلا إن أقدره الرب، جل وعلا، عليه، فليس إلا سببا يوصل الرب، جل وعلا، به النفع إلى عباده، إن اصطفاه بفضله، أو الضر إن أبعده بعدله، فجعله حربا على المؤمنين والمؤمنات لفساد محله فلا يقبل آثار الخير من مودة للمؤمنين وبر بالناس أجمعين.
فالقول بالمشاكلة هنا صحيح إن لم يرد قائله التوصل بذلك إلى نفي الوصف بإلغاء كل اشتراك بين وصف الرب، جل وعلا، ووصف العبد، فكلاهما يفرج، كما تقدم، فذلك اشتراك في الأصل، وشتان تفريج كليهما فذلك افتراق في الفرع، فالمشاكلة اللفظية في مثل هذا الموضع مشفوعة بمشاكلة معنوية في أصل المعنى دون فرعه.
وقد نكرت "الكربة": إما لبيان النوع، فتعم القليل والكثير، فهي جارية مجرى اسم الجنس، وذلك مما يحمل العباد على المسارعة في قضاء حوائج إخوانهم، ولو صغرت، فـ: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، فنكر العمل، أيضا، مئنة من النوعية فلا يضيع أجر من أحسن أي عمل، صغيرا كان أو كبيرا، لقرينة وروده في سياق نفي فتلك من صور العموم الذي يشمل القليل والكثير والصغير والكبير، فلا يضيع أجر من أحسن أي عمل طالما أحس صاحبه في إرادة وجه الله، جل وعلا، به، وأحسن بفعله على الوجه المشروع، وإما تعظيما، فمن الكرب: كرب عظام:
وأي كربة أعظم من كربة الفتنة في الدين، فهي أعظم نازلة تنزل بالمؤمن، وأعظم كرامة تقع له، إن صبر وثبت، فلا يليق بمن يدعي الإيمان أن يبخل عليه ولو بالدعاء أن يثبته الله، جل وعلا، ويصبره حتى ينال الثواب والرفعة في الدنيا والآخرة: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
فذلك تقرير ثالث جار على ما تقدم من المشاكلة في اللفظ وأصل المعنى في سياق شرط يزيد المعنى تقريرا بتعليق الجزاء على الشرط، فضلا عن العموم الذي صدر به، وهو اسم الشرط: "من"، فلا نظر فيه إلى عين العامل بل النظر إلى قلبه وما قام به من إيمان هو أصل لصحة أي عمل، ثم إرادة خير فباعثه الإخلاص، ثم إلى عمله فلا يقبل الرب، جل وعلا، إلا ما كان على منهاج أنبيائه عليهم السلام.
فمن سَتَر سُتِر، وصور الستر كثيرة، فمنها ستره إذا أذنب، ما لم يصر في ذلك مفسدة عظيمة ترجح رفع أمره إلى السلطان ليكف أذاه عن المؤمنين، ومنها ستره إن كان مستضعفا مطاردا بلا ذنب اقترفه، كحال كثير من المؤمنين والمؤمنات في زماننا، لا سيما من فتن منهم في دينه، فستره لئلا يفتن في دينه، إن عجز المسلمون عن نصرته صراحة كما هي الحال في زماننا!، ستره من آكد لوازم الولاء والبراء، وذلك أمر يعم كل صور الستر المعنوية بتعليمه أمور الديانة والتهوين عليه فالفرج قريب وإن اشتد الكرب ..... إلخ، والمادية بإيواء ونفقة ..... إلخ، فمن فضحه ووشى به، وطارده وسعى في إسلامه إلى من يفتنه في دينه فقد ارتكب ناقضا من نواقض الإيمان، وإن كان مصدقا بقلبه.
ومقابل هذا الستر المحدود: ستر الرب، جل وعلا، في يوم تفتضح فيه النفوس فيظهر مكنون الصدور وتبلى سرائر القلوب، وينكشف ما قد كان مستورا من ذنوب الخلوات وفساد النوايا والإرادات.
والله أعلى وأعلم.