تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قصر حقيقي، بالنظر إلى قيد الإطلاق الذي ذيل به كل وصف، فهو الأول مطلقا فلا أول مطلق قبله، وهو الآخر مطلقا لا آخر بعده، وحصل بالطباق إيجابا بين الوصفين إثبات كمال الإحاطة الزمانية له، جل وعلا، فتقدم على كل حادث فكان ولم يكن شيء قبله، فكان بذاته الكاملة وصفاته اللازمة والفاعلة، فهو العليم الحكيم أزلا، وهو الخالق الرازق، وإن لم يكن ثم مخلوق مرزوق، فلم يكن معطلا عن وصفه بعدم ظهور أثره في العالم الحادث المخلوق، بل شاء ألا يخلق فلم يكن إلا هو، ثم شاء أن يخلق، فتعلق وصف الفعل بمشيئته العامة وظهر أثره في الكون بكلمة كونية نافذة، وهو الباقي على تلك الأوصاف الشريفة والنعوت الجليلة بعد فناء خلقه، فذلك من معاني الصمدية الثابتة له، أيضا، على جهة القصر الحقيقي بتعريف الجزأين في قوله تعالى: (اللَّهُ الصَّمَدُ)، بل بعد قيامهم له للعرض والحساب، وخلودهم في جنة أو نار، يبقون بإبقائه لهم، فيفتقرون في الأولى والآخرة إلى آثار صفات كماله، فذاتية الوصف الرباني تمنع بداهة طروء النقص بحلول أو اتحاد بذات أرضية تتصف بضد ما تتصف به ذات الرب، جل وعلا، فذاته تبارك وتعالى: ذات الأول فلم يحدث له كمال في ذاته أو وصفه كان مجردا عنه، وذات المخلوق: ذات الحادث الذي كان عدما بلا وصف، فقدره الرب، جل وعلا، في الأزل، وكتب خلقه بقلمه التكويني، وفرض عليه طاعته وطاعة رسله بقلمه التشريعي، ثم أوجده بمشيئة نافذة، فـ: (اللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)، فيحكم بما شاء، والحكم مئنة من النفاذ، فالقضاء الكوني مبرم، والحكم مئنة من الحكمة، فالقضاء الشرعي محكم، فلا يعتريه ما يعتري أحكام البشر من تفاوت بين أحكام العقول بل تناقض في حكم العقل الواحد، وذاته عز وجل: ذات الغني، وذات المخلوق: ذات الفقير الذي يستمد أسباب بقائه كونا وصلاحه شرعا من الغني بذاته ووصفه، فإذا جاز، فرضا جدليا لا حقيقة له لامتناعه شرعا وعقلا، إذا جاز أن يمتزج الكامل ذاتا أو صفات بالناقص فيكتسب من نقصه الجبلي ما ينزل به عن رتبة الخالقية إلى رتبة المخلوقية، فلا ينفك أي تمازج عن ذلك اللازم، وهو ما احتج به صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فاحتج بأعراض الجبلة البشرية في ذات المسيح عليه السلام لينفي ألوهيته ويثبت بشريته برسم الرسالة، فهو من أولي العزم عليهم السلام.

فلا يكون شرك إلا بتشبيه الخالق، عز وجل، بالمخلوق، فذلك جفاء في حقه تبارك وتعالى، يقابله الغلو في المخلوق برفعه فوق درجته وتشبيهه بالخالق، عز وجل، إما في الديانة العلمية فيعقد فيه، كما تقدم، كمالا ذاتيا أو وصفيا أو فعليا لا يكون إلا لله، عز وجل، فتفسد قواه العملية لزوما بفساد قواه العلمية، فيصرف من صنوف التأله لغيره، جل وعلا، من آلهة مزعومة ونواب عنها في الأرض تحل وتعقد ما شاءت من أمور الديانة عقيدة أو شريعة!، يصرف من ذلك ما لا يصرف بداهة إلا إلى الرب جل وعلا، وإما في الديانة الحكمية فيعتقد في مخلوق مثله كمالا في العلم والحكمة يؤهله لسن الشرائع فينازع الرب، جل وعلا، منصب الربوبية سنا للشرائع، فيقع في الشرك من هذا الوجه، فجهة العمل فيه أظهر وإن لم ينفك عن فساد علمي فما رضي لنفسه تقليد حكم غيره إلا لتيقنه، ولو باطلا، من أنه أعلم وأحكم فيعلم ما لا نعلم ويدرك من غايات الأمور ودقائقها ما لا ندرك! مع كونه بشرا عاديا، فليس رسولا، بل لو كان رسولا فإنه لا يعلم إلا ما علمه ربه، جل وعلا، ولا يصدر إلا عن أمره، فليس له من أمر التشريع استقلالا شيء، وإن كان هو صاحب الشريعة من جهة التبليغ والبيان، فاستقلاله بإنشاء الأحكام: سنة لا يعني أنه يشرع ما شاء بل لا يصدر في السنة إلا صدوره في الكتاب، فلا يصدر إلا عن أمر ربه، جل وعلا، الشرعي الحاكم.

واليوم تقف الديانات الكهنوتية لتنازع الرب، جل وعلا، في الصراط العلمي، وتقف المناهج الأرضية لا سيما العلمانية لتنازعه، جل وعلا، في الصراط العملي، وليس ثم إلا صراط واحد هو صراط الرب الخالق المدبر الشارع، جل وعلا، فهو الصراط المستقيم الذي بذل المؤمنون والمؤمنات من المستضعفين والمستضعفات، لا سيما في زماننا، بذلوا ما بذلوا ليسلكوه، وأهله عنه وعنهم في غفلة فهم أعظم الزاهدين فيه فلم يدفعوا ثمنه ليدركوا قيمته كما دفعه الأولون، فـ: (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير