تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومع ذلك حكم عليه الحنابلة، رحمهم الله، بالكفر الأكبر، والخلاف في هذه المسألة معروف مبسوط في كتب الأصول والفروع، فمن حمله على هذا الوجه فالعطف عنده من عطف الخاص على العام، فعم بذكر العبودية التي تشمل الصلاة والزكاة، ثم أفردهما بالذكر تنويها بشأنهما، وقد استدل به بعض أهل العلم كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، على خطاب الكفار الأصليين من الكتابيين والوثنيين بفروع الشريعة، فتوجه إليهم الخطاب بالتوحيد الذي لا تصح عبادة إلا به، ثم توجه إليهم الخطاب بالصلاة والزكاة فهم مخاطبون بالفروع وبما لا تصح إلا به من التوحيد فهو أول واجب على العبيد كما تقدم.

ثم جاءت الإشارة إلى ما تقدم على جهة التعظيم بالإشارة إلى البعيد:

وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ: فذلك من إيجاز الحذف، فتقديره: وذلك دين الملة القيمة، وقرئ: الدين القيمة، على تأويل الدين بالملة، وذلك مما يستأنس به من جوز القياس في اللغة، فقيس الدين على الملة في حكم الوصف باللفظ المؤنث، كما قد حكى بعضهم: جاءته كتابي فتأول الكتاب بالصحيفة، وكما قال قائلهم:

يا أيها الراكب المزجي مطيته ******* سائل بني أسد ما هذه الصوت

أي: ما هذه النصيحة كما ذكر ذلك ابن القيم، رحمه الله، في "بدائع الفوائد".

وكما قد حكى أبو عبيدة معمر بن المثنى، رحمه الله، في "مجاز القرآن" في تأويل قوله تعالى: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ)، فقال: "فجعلت السماء بدلا من السقف بمنزلة تذكير سماء البيت"، فقاس السماء على السقف فأرجع الضمير عليها مذكرا، وكما قد حمل عليه قوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، في وجه من وجوه تجويز وصف المؤنث باللفظ المذكر: "قريب"، فقيست الرحمة على الإحسان، وذلك من تفسير الصفة بلازمها فلا يلزم منه تأويل مردود، كحال من تأول الرحمة بإرادة الإحسان، فرد صفات الأفعال الربانية إلى صفة الإرادة، فليس التفسير باللازم من هذا القبيل، فإن من يفسر باللازم لا ينكر الملزوم الأول، بخلاف من يتأول الصفة بلازمها، فإنه ينكر الملزوم، ويجعل اللازم هو المراد من كل وجه.

ثم جاءت المقابلة بين حال الفريقين إمعانا في الإنكار على كفار أهل الكتاب ببيان سوء عاقبتهم في مقابل حسن عاقبة المؤمنين سواء أكانوا من أهل الدين وراثة، أم من أهل الحق دراية ممن خبروا سبيل المجرمين فعاشوا عمرا في الضلالة ثم شاء الرب، جل وعلا، أن يصطفيهم، لزكاء محالهم، وإن كانوا مستضعفين لا حول لهم إلا بباريهم، جل وعلا، بعد أن قعد أهل القدرة عن نجدتهم، قلة مروءة وغيرة على حرمات الدين وأهله فبدأ بالأدنى رتبة فـ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)، ثم ثنى بالأعلى وصفا ورتبة: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)، فالمقابلة حاصلة حتى في المبنى بتصدير كل بالتوكيد، والتذييل بالإشارة بالبعيد: مئنة من سفل الذين كفروا، وعلو الذين آمنوا، فيجري، كما تقدم في مواضع سابقة، مجرى المشترك اللفظي، بل هو من الأضداد اللغوية، من هذا الوجه، فدل على المعنى وضده لقرينة السياق، فتعلق المعنى بالكفار غير تعلقه بالمؤمنين بداهة وإن اتحد المبنى اللفظي، فالمؤمنون في أعلى عليين فأولئك أهل دار النعيم، والكفار في أسفل سافلين فأولئك أهل دار الجحيم، وإن سخر أهل الباطل من أهل الحق، فـ: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ)، فحصلت المقابلة أيضا بين ضحكهم سخرية من أهل الإيمان في دار الابتلاء، وضحك أهل الإيمان منهم في دار الجزاء: جزاء وفاقا.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير